انا ..وحكايا النجوم عبد الحليم حافظ

لم يسبق لاي مطرب عربي ان حظي بتكريم اعلامي وجماهيري بعد مرور اكثر من 37 عاما على رحيله باستثناء عبد الحليم حافظ الذي لا يزال مالىء الدنيا وشاغل الناس" كما كان قبل الرحيل .. فهذا الفنان الذي يمكن تصنيفه في خانة الاذكياء حتى الخبث .. استخدم ذكاءه الفني في كل صغيرة وكبيرة في حياته الفنية والاجتماعية وحظي بالمجد والشهرة وحب الناس.. والخلود !على الرغم انه مطرب فقط ..اي انه ليس ملحنا او عازفا او ممثلا بارعا ..كانت قدراته كلها عبارة عن" صوت واحساس ،وذكاء.. هي كل اسلحته التي استخدمها لينجح ويبقى ..ويستمر .في زمن العمالقة "ام كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الاطرش "واصوات اخرى يفوق جمالها وقدراتها صوت عبد الحليم حافظ بمراحل مثل المطرب محمد قنديل ..الا ان حليم احيط من البداية برعاية خاصة على كافة المستويات " كأنه جاء في وقته "بالنسبة لمحمد عبد الوهاب ,, ومحمد الموجي وبليغ حمدي وكمال الطويل.

كان محمد عبد الوهاب قد توقف عن الغناء في اواخر الخمسينات و يبحث عن صوت يقدم اليه الحانه وموسيقاه ..وقد يكون الحظ لعب لعبته مع عبد الحليم الذي تزامن ظهوره مع بداية ثورة 23 يوليو"مما جعله يحظى بغناء عدد كبير من الألحان التي كرسته "مطربا للثورة" على مدى السنوات التي حكم فيها جمال عبد الناصر ومجلس قيادة الثورة في مصر.. اي من عام 1952 حتى عام 70 19

الحكاية ..
لم يكن حضور حليم في المشهد الغنائي العام يعنيني سواء بأغانيه العاطفية اوالشعبية المستمدة من الفلكلور والتراث ..لان حضوره الفعلي بالنسبة الي كان عبر اغانيه الوطنية فقط ..وبشكل خاص الاغاني والاناشيد التي كتبها صلاح جاهين ولحنها كمال الطويل .. الى جانب قائمة اخرى تضم نخبة الملحنين والشعراء مثل عبد الرحمن الابنودي وحسين السيد ومرسي جميل عزيز وغيرهم.. وعلى الرغم من ان كل مطربي تلك المرحلة غنوا للثورة من دون استثناء الا ان عبد الحليم نال حصة الاسد في عدد الاغاني والاناشيد والمواويل الخاصة بتلك الثورة وساهمت الاذاعات المصرية وقتذاك في تكريس ذلك الواقع من خلال اذاعة اغانيه بصورة دائمة ربما فاقت اذاعة اغاني ام كلثوم " ومحمد عبد الوهاب وفريد الاطرش" وشادية" و غيرهم. ..

مواكبة فنية
لماذا لم يكن عبد الحليم مفضلا لدي "كله على بعضه " في تلك الفترة كغيره من المطربين والمطربات الذين -اواللواتي - تزدحم بهم –او بهن- الساحة الغنائية التي كانت مزدهرة ومنتعشة ومتجددة ومواكبة للأحداث ولتطلعات الشعوب العربية التي بدأت تنهض من غفوتها بزوال الاستعمار واعوانه وتكريس الاستقلال في اكثر من بلد عربي مثل سوريا ولبنان ومصر واليمن ومن بعدهم الجزائر وبعض دول الخليج من بينها الكويت اوائل الستينات ..

والغريب انني عندما كنت استمع احدى اغانيه العاطفية عن طريق الصدفة اسارع الى تغيير المحطة وكأنني اخون قضيتي الوطنية ..فالثورة المصرية اقصد "23 يوليو " لم تكن للشعب المصري فقط وانما لكل الشعوب العربية الطامحة للحرية "وبما انني كنت اعيش في جنوب لبنان فكانت الاذاعات المصرية غذاءنا اليومي لانها قريبة منا لا يفصلنا عن مصر سوى فلسطين المحتلة .واحيانا كنا نحظى بمشاهدة التليفزيون العربي من بعض الاماكن المرتفعة في قريتنا حيث نلتقط ارسال التليفزيون المصري ..مما يعني اننا كنا في خضم الحالة المصرية معايشة ومواكبة فنية واجتماعية وسياسية ..

لكنني بصدق لم اشعر يومها ان لعبد الحليم مكانة في نفسي ..لم يشكل لي اي حالة يمكن ان نسميها اعجابا باستثناء ما ذكرته وربما يكون للغناء الوطني قبل ال67 وما بعدها تأثيره الخاص في النفوس بعد النكسة وتداعياتها حتى تنحي عبد الناصرومن ثم عودته عن قرار تنحيه .. ثم مرحلة حرب الاستنزاف التي كانت حربا عظيمة-في رايي - سجلت فيها وقائع بطولية للجيش المصري.. لذلك لم تغادر الاغنية الوطنية اسماعي ولا قلبي.. وكنت احتفي بها من خلال عبد الحليم وام كلثوم وشادية ومحمد فوزي وفريد الاطرش ومحمد عبد الوهاب ونجاح سلام وصباح وعدد كبير آخر من المطربين ..واحفظ تلك الاغاني وارددها تماما كأغاني الحب التي كانت رائجة ايضا ..لكن السؤال الذي يلح في الذاكرة لماذا لا يستطيع الغناء الوطني بشكل عام ان يكرس مطربا او يجعله مفضلا ..بمعنى الا نستمع الا له مثلما كان يحدث في جيلنا بالنسبة لاهل الغناء.. فمن يحب ام كلثوم يكاد لا يستمع الا لغنائها.. وكذلك الامر بالنسبة لمحمد عبد الوهاب اوفريد الاطرش ..او فيروز الخ .. لكنه ليس كذلك مع بقية المطربين ..اي ان الاغنية الوطنية بمفردها او الغناء الوطني لا يصنع مطربا ..يعني لو تخيلنا ان ام كلثوم التي غنت والله زمان يا سلاحي" او طوف وشوف "او اصبح عندي الان بندقية" او على باب مصر "او مصر التي في خاطري وفي فمي" او غيرها من عشرات الاغاني والاناشيد والقصائد فقط ..هل ستكون ام كلثوم هي التي نعرفها ؟ لا اعتقد .. لان الغناء الوطني بالنسبة اليها والينا ليس مشروعا متكاملا للغناء .. وهذا ينطبق على غيرها وعلى عبد الحليم ايضا ..الذي منح لقب مطرب الثورة بعد رحيله وليس في حياته.. اذا لا يمكن ان يطلق عليه هذا اللقب بوجود ام كلثوم وعمالقة اخرين غنوا ولحنوا وكتبوا للثورة ..لذلك يعتبر الغناء الوطني حالة غير اساسية في مسيرة المطرب.. ويمكن ان يحقق نجاحا منقطع النظير من دون ان يغني للثورة او الوطن او الرئيس ..

النجاح الحقيقي
في رايي ان عبد الحليم حقق نجاحه كمطرب من خلال الغناء العاطفي اولا والذي بدأه في افلامه السينمائية " لحن الوفاء " ودليلة " وبنات اليوم " ويوم من عمري " وايامنا الحلوة " وحكاية حب وشارع الحب " وفتى احلامي وموعد غرام والوسادة الخالية " والخطايا وابي فوق الشجرة" ومعبودة الجماهير وفي الاغاني والقصائد الطويلة التي غناها في الحفلات والمناسبات واستكمل بها مسيرته التي امتدت الى ثلاثين عاما .. ففي افلامه الاولى اعتمد الغناء القصيرمثل ..اسبقني يا قلبي " ويا قلبي خبي " وخسارة فراقك يا جارة " وقولوله " وغيرها ثم بدأت الاغني العاطفية الطويلة نسبيا في فيلم يوم من عمري وحكاية حب وشارع الحب والخطايا والوسادة الخالية وغيرها وتطور هذا الغناء ودخل في اعماق الغناء الرومانسي العاطفي الدامع وانطلق محلقا في الاسماع
وفي تلك المرحلة اي –الثانية- (الستينيات) كرس عبد الحليم نفسه كمطرب عاطفي منافس لغيره ولم يكن هناك في هذا الاطار الا فريد الاطرش ..وقد لعبت الصحافة والاعلام دورا كبيرا في تصعيد حدة المنافسة " مما جعل حليم غير راغب في الغناء من الحان فريد لانه بذلك يخرج من المنافسة وهو لا يريد لفريد ان يحقق ذلك ..وانشغلت الصحافة لسنوات عدة في هذا الامر

جو فني
من ناحية ثانية ما يحسب لعبد الحليم انه كان نتاج جو فني متكامل تشكل على ارضية ثورة 23 يوليو وتكون كما اشرت سابقا من اساتذه في التلحين وكتابة الاغاني الى جانب عدد من الصحافيين والاعلاميين المتحمسين له اي انه اسس جبهة مواجهة فنية وضمنها كل عناصر النجاح بمساعدة ومشاركة محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي وكمال الطويل ومحمد الموجي وصلاح جاهين مما وفر لعبد الحليم تلك المكانة المرموقة التي حظي بها.. ومن الطبيعي ان يكون الذكاء الفني قد لعب دوره عبر شخصيته .. ولكن هل كل ما قام به حليم كان ايجابيا ؟ هنا السؤال لاننا نسقط عن الاموات كل تصرف غير سوي ..ويمكن ايضا ان نصل به الى درجة التقديس كما حصل من قبل مع ام كلثوم من خلال الهالة التي اسقطها الاعلام "عليها وتحديدا عبر المسلسل الذي حمل اسمها .
وما حدث ايضا بالنسبة لعبد الحليم حافظ ولم يحدث بالنسبة لاسمهان ..

فالذكاء مسألة ايجابية في شخصية عبد الحليم ولكن هناك جوانب سلبية لهذا الذكاء ظهرت في سلوكه وفي علاقاته بالعديد من المطربين في مقدمتهم أم كلثوم وفايزة احمد وصباح وفريد الاطرش وغيرهم .. مما جعل احدى المطربات تصف ذكاءه بالذكاء الخبيث ..بمعنى انه كان يعرف كيف يستثمر علاقاته بكل من حوله ليأخذ منه كل ما يستطيع ..ولا يريد لاحد غيره كما قال احد الملحنين الذين عاصروه –ان يأخذ شيئا لنفسه ..

لست هنا بصدد محاكمة حليم او اعادة الزمن الى الوراء ولكن يصح ان نذكر الحسنات والسيئات في شخصية كل فنان لانهما معا يكونان شخصيته ..ففي الغرب عندما يتناولون فنانا ما في فيلم سينمائي يقدمونه كما هو من دون رتوش بينما نقوم نحن بتجريده من كل سلبياته ونجعله ملاكا وهذا ينافي الواقع والحقيقة ..
لقد حارب عبد الحليم الكثير من المطربين ..هذه حقيقة وواقع اذكر فقط علاقته بالغناء الشعبي اذ ما ان تغنى محمد رشدي بأغانيه الشهيرة التي حققت له شعبية كبرى حتى قفز حليم الى هذا النوع من الغناء مع ملحنه بليغ حمدي الذي برع في اعادة بعض نماذج من الفلكلور المصري بصوت محمد رشدي .مثل عدوية وغيرها من الاغاني التي كانت شائعة في الستينات ..والتي اعادت للاغاني الشعبية اعتبارها وظهر العديد من المطربين من بينهم ليلى نظمي ..التي غنت هذا اللون من الغناء .الى جانب عدد اخر من الاصوات النسائية والرجالية .

هرم غنائي
لا احد ينكر على عبد الحليم قدرته الفائقة عبر صوته المحدود في غناء كل الالوان من الطقطوقة الى القصيدة الى الغناء الشعبي والوطني والديني ايضا ..كا ن مطربا بارعا في اختياراته وفي احساسه غناء ا وتمثيلا ..ولا يمكن لاحد ان ينكر ما حققه عبد الحليم بعد وفاته من مكانة يفوق ما وصل اليه في حياته لانه كان يعرف كيف يغني وماذا يغني ومن هو الملحن والشاعر ..لذلك حقق النجاح في كل ما غناه وما وصل اليه واستحق هذا الخلود الذي نعيشه من خلال جبهته الفنية العريضة التي تحدثنا عنها والتي مكنته من البقاء في قمة هرم الغناء.

حكايتي مع عبد الحليم تتلخص في عبارتين.. عبد الحليم فنان لا يمكن تجاهله .. لانه حقق المعادلة الصعبة في غناء كل الالوان الغنائية وبرع فيها ..مما يعني ان معادلة الذكاء"الخبيث" والاحساس والصوت يمكن ان تصنع المعجزات .

مروركم الرائع حبيتى جنة النعيم واخى علاء تحياتى لكم يا اعز الناس     

6

17