وعلى الرغم من أن عبد الحليم هو من أعطاني موعد اللقاء في بيته ، إلا أنه لم يكن قد استيقظ رغم أن الساعة وصلت إلى السادسة قرب الغروب .
وقررت تسلية نفسي إلى أن يستيقظ ؛ فأدرت إسطوانة وجدتها على البيك آب بحجرة المكتب ، وهي قصيدة « لا تكذبي » .
ورغم أن سعاد حسني ليس لها علاقة بأي كذب إلا أن وصف الشاعر الكبير كامل الشناوي أضاء في رأسي « « كل عين من عيون سعاد هي شفاه تبتسم».
ودار في رأسي معظم ما أعرفه عن سعاد ، لأرى بعيون الخيال كيف كانت مجرد بلورة آدمية تخرج من بطن أمها إلى الدنيا في السادس والعشرين من يناير 1942 ، وهي كأي بلورة آدمية تحمل في داخلها نبوءة هي مرصودة لتحقيقها مهما كانت الصعاب . تحكي بلورتها السحرية التي تحركها ويسميها بعضنا « القدر » ، تحكي عن قصة مثيرة ، فهي ستتعرض لمحاولات الكسر والبعثرة ؛ لكنها ستحمل بين قدراتها ما فعلته إزيس من قبل لحبيبها أوزوريس ، فحين بعثرته شرور شقيقه « ست« طعنا وتمزيقا لجثمانه ، دارت إيزيس بين أنحاء مصر لتجمع الأشلاء ، لتضعها بجانب بعضها وتعيد ترتيبها، ثم تتحول إلى يمامة ترقد على رمز خصوبة من أحبت ، لتنجب منه حوريس صانع العدالة بالسيف ، بينما احتفظ والده أوزريس بميزان العدالة ؛ ليزن به أعمال قلب أي كائن بشري يغادر عالمنا ليضع القلبفي كفة وفي الكفة الأخرى ريشة طائر ، فإن توازنت الكفتان فصاحب القلب مصيره إلى النجاة و الخلود ، وإن ثقلت كفة القلب ، فهذا مصيره إلى العذاب .
وكان قلب سعاد يصعد _ وهي تعيش _ على كفة الميزان ، فترجح كفة الريشة ، لتنطلق هي من بعد ذلك فرحة بنجاتها من العقاب ؛ فهي من كانت تتعرض في الطفولة لتلقين من الأب المطلق لأمها ؛ كي تذهب إلى المحكمة وتطلب من قاضي الأحوال الشخصية أن تنضم لحضانة الوالد الرافض للصرف عليها وعلى شقيقتيها صباح وكوثر ، وكانت الأم المطلقة تطلب لبناتها النفقة . وأحيانا أخرى كانت تتعرض لتلقين مضاد من الأم كي تبقى في حضانتها . وكان أي من التلقينين يحتوي على بعض من الوقائع التي لم تحدث ، فأي من الأب أو الأم ينسب للطرف الآخر كثيرا من البهارات الشريرة والقاسية التي يمكن أن تجعل قلب القاضي يميل إلى ضم البنت إلى حضانة الأب أو إلى حضانة الأم . وكان الثمن دائما موجود عند الأب في قطعة من الحلوى إن شهدت سعاد في المحكمة لصالحه ، والثمن أيضا موجود عند الأم إن شهدت في المحكمة لصالحها وهو ضمة حنان ورضا ، فالأم تنحني طوال النهار على ماكينة الخياطة في بيوت من يطلبون شطارتها في حياكة الملابس بسرعة ، وعادة ما تسهر بعضا من الليل لتطلب من الطفلة سعاد مساعدتها ، أو على الأقل رعاية الشقيقتين صباح وكوثر . وفي المحكمة تقف لتحكي الواقع كما تعرفه هي لا كما أملاه الأب أو أملته الأم ، وغالبا ما كان الجزاء هو عتاب مصحوب بعقاب ، الضرب مرة ، الإهانة بالكلام قاسي مرات ، والتشكيك في أنها رضخت لما قاله الأب أو ما قالته الأم ، فكل من الأب والأم يحملان ضغينة متوقعة ، ضغينة عجز الأثنين عن الحياة معا .
ولا تتكسر البلورة الموجود في أعماق سعاد ، والتي يسميها الطب النفسي « النبوءة الذاتية » فهي تعلم يقينا أن بداخلها سحر ما سيلهب خيالات الآخرين كل الآخرين ليندهشوا بقدراتها ، وكان المندهش الأول هو بابا شارو الذي ضمها لفريق التمثيل في برنامجه الإذاعي الأشهر ، لتقبض قروشا قليلة ، تصر دائما على منحها للأم لعلها توفر عليها بعضا من متاعب الجلوس على ماكينة الخياطة . وما أن يخرطها خراط البنات ليتبرز ملامح أنوثتها ذات البراءة ، حتى تلتقطها عيون مدربة على إكتشاف المواهب ، هي عيون مجمع الفنون البشري المسمى عبد الرحمن الخميسي« هذا الذي شهد له الجميع كقادر على أن يكتب الشعر والقصة والمسرحية ويؤلف الموسيقى ويخرج الأفلام أيضا . ويعهد بها إلى الممثل « إبراهيم سعفان» ليعلمها القراءة والكتابة ، فهي لم تدخل مدرسة ما . وما أن يزيد خراط البنات من إبراز أنوثتها حتى يقدمها عبد الرحمن الخميسي في فيلم من إخراجه هو « حسن ونعيمة »أمام مطرب قيل أنه سينافس عبد الحليم حافظ في القمة التي صعد إليها ليجاور ام كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش ، ولم يستطع مطرب معاصر له أن يزيحه من مكانته التي لم يخلص في حياته لأي شىء إلا لتلك المكانة. وحين وقعت عيون كمال الملاخ على طلة سعاد حسني حتى شعر أن من حقها نشر صورتها في الصفحة الأخيرة من الأهرام ، تلك الصفحة التي أهدتنا الكثير من نجوم الغناء والتمثيل والرسم ، فكمال الملاخ أيضا كان مخزنا للإبداع ، أليس هو مكتشف مراكب الشمس ؟ . لذلك قدم لها مركب شمس من الكلمات التي تصف أداءها التمثيلي ، فتقع عيون عبد الحليم على صورتها ، ليكتشف أنها تشارك مطربا هو محرم فؤاد في فيلم ، ومعنى ذلك ببساطة عند ذكاء عبد الحليم أنه لابد من تجريد هذا المطرب من أن يلمع بواسطة الممثلة ذات الطلة التي لا مثيل لها في الأفلام ، فيجمع عبد الحليم المعلومات عنها ليكتشف نقطة ضعفها ؛ ويقرر أن يدخل من تلك النقطة إلى بوابة مستقبلها ، نقطة ضعف سعاد هي عدم الرضا عن اللقطات التي يتم تصويرها لها؛ لذلك تطلب الإعادة ، ومعنى ذلك إرتفاع تكلفة الأفلام الخام التي يستهلكها التصوير ، لذلك ابتعد عنها المخرجون والمنتجون . ولأن عبد الحليم صاحب شركة إنتاج ، لذلك طلب التعرف عليها ليستند لها دور شقيقته في فيلم البنات والصيف قصة إحسان عبد القدوس ، ويقول للمصور وحيد فريد أمام مخرج الفيلم « لا يهم أي تكلفة لإعادة التصوير ، فالمهم أن ترضى سعاد عن نفسها » . بدا عبد الحليم كأنه طوق النجاة لها من أن تصبح موهبتها مجرد مخزون راكد في أعماقها . ولتأتي من بعد ذلك رحلة للإثنين إلى المغرب ، فيطل الحب من عيونه إلى عيونها ليرقص القلبان رقصة أمل قادم ، ويطيران من مراكش إلى مدريد ليختارا معا بعض الإحتياجات مع دبلة الخطوبة ، وتعود سعاد فرحة لتعلن الخبر ، لكنها تفاجأ بأن عبد الحليم يكذب القصة بكاملها ، والسبب هو الدوامة التي يعيش في داخلها وتدور به كأنه حجر مقذوف في قلب تلك الدوامة ؛ ليخوض كل لحظة رحلة إصرار للبقاء فوق السطح ، وليقاوم طوال الأيام دوامة نزيف دوالي المرئ ، والذي كان في تلك الأيام أشبه بمرض السرطان ، حيث أن العلاج دائما مؤقت ، وهو الذي دفعه _ على سبيل المثال _ أن يرضخ لرأي طبيبه وهو مؤسس فرع علاج الكبد من أمراضه المخلتفة د. ياسين عبد الغفار ، الذي أوصاه بأن يكون سريره مرتفعا من ناحية الرأس مائلا إلى الأرض بعضا من الشيء من ناحية القدمين ، فالسرير الأفقي قد يسبب له الإختناق بالنزيف إن هاجمه ليلا ، ولذلك قال لسعاد حين أرادت شراء غرفة نوم معينة فى مدريد « لا تفكري في السرير . لأن أثاث البيت كله سيختاره «كاظم» أشهر ديكوريست في بر مصر في تلك الأيام ،وهو يعمل تحت إشراف فؤاد باشا سراج الدين» . إندهشت سعاد لأن الزمن جعلها تسمع عن سكرتير حزب الوفد الذي كان والدها يحكي عنه أنه من رفع سعر القطن في البورصة عام 1951 ليصل ثمن القنطار إلى ما فوق الخمسين جنيها ، وبعد أن باع فؤاد باشا وكافة أبناء الطبقة الراقية أقطان أراضيهم ، هبط سعر القنطار إلى ستة عشر جنيها ، فأشعل عدد من الفلاحين النار في أقطانهم وملابسهم وعرف الريف المصري كيف يمكن للفلاح الصابر دائما أن يذهب بأقدامه إلى الموت بشرب المادة السامة التي كانوا يرشونها على القطن لمقاومة الدودة . فؤاد باشا صار الآن مجرد تاجر تحف يشرف على تأثيث بيت حلمها الذي ستتزوج فيه عبد الحليم حافظ . ولم تكن سعاد ترى الدوامة التي يعيش فيها عبد الحليم ، دوامة انتظار النزيف، فضلا عن عدم ثقته الواضحة في أي إمرأة منذ مارست أمه «بهانة بنت عماشة» أكبر خيانة في تاريخه ، عندما ماتت من بعد ميلاده ، فمضت أيامه في شجن الخوف من إفتقاد المرأة التي قد تتخلى عنه . و طبعا تلا ذلك أكثر من خيانة من أكثر من إمرأة ، فالراقصة التي منحها قلبه وهو على أبواب الشهرة ، تركته لأنه لم ينفذ وعده بالزواج منها فورا ، فغاظته بأن إقتربت بدلال صاخب من رفيق مشواره محمد الموجي الذي لم يدخل في علاقة غرام بعيدا عن المأذون ،فتزوجها لمدة شهر ليأتي من بعدها الطلاق . ومن بعد ذلك جاءت « بنت الذوات» وسليلة الحسب والنسب والتي سحرته بعيونها وقررت أن تحصل على الطلاق لترتبط به ، وبعد أن حصلت على الطلاق ، وإتخذت قرارا يصعب على أم أن تتخذه بأن تترك ولديها لحضانة الأب الذي مزق أعماقها بغيرته ومعاملتها كعجين أنثوي يشكله في أي وقت على هواه ، بعد كل ذلك تردد عبد الحليم في الإرتباط بها ، لتقع بعد أسبوع من تردده فريسة فيروس بالمخ ، يسرق منها الحياة ، ويشهد ضده صديق أيامه كمال الطول قائلا « كان يحب نفسه ولا يحبها ، لذلك خاف من الإرتباط بها » ، وكان هذا من أوائل الخلافات بين كمال الطويل وصديق أيامه عبد الحليم حافظ . وهاهو الخوف من الإرتباط بسعاد حسني يقفز إلى أيام سعاد فتجلس باكية إلى زميلتي مهجة عثمان بروز اليوسف لتفتح أمامها حقائب الهدايا التي إشتراها لها عبد الحليم من مدريد . وتصر سعاد على أن تحضر إثنين من البوابين كي يحملا حقائب الهدايا ، لتضعها أمام باب شقة عبد الحليم ، الذي يتصل بها مستغفرا ،طالبا نسيان الخلاف . ثم يصل إلى سمعها واحدا من أسباب تردده في الزواج ، فقد وقع بين شقي رحى ، حين عرض أمر تفكيره في الزواج منها على مصطفى أمين ، فحذره من الزواج ، لأنه بذلك سيفقد المعجبات . وحين عرض أمر التفكير في الزواج منها على إحسان عبد القدوس نصحه بالزواج الفوري ، لأن الزواج عن حب قد يغير فوضى حياته ويهبه درجة من الراحة مع الثقة بالنفس . ولكن ماذا يمكن أن يفعل في النزيف ؟ كان هذا سؤال الطب الحائر في رأسه ، لتنقذه سعاد من خصامها معه؛ ذات ليل وهي تدق باب بيته مذعورة بعد أن خطفها أحد رجال الأمن من الجزء الفاسد في ثورة يوليو ليقدمها لرئيسه ، وكأنها فتاة ليل . فتقسو سعاد على الرجل المجنون بالبحث عن النشوة بأي ثمن ، لتقول له الكلمة التي أهانته « لا يمكن للمرأة أن تشعر برجولة إنسان يمارس الحب معها قهرا» ، فيطرده المجنون بالنشوة لتلجأ لعبد الحليم ، الذي يتدخل عند رئيس المجنون بالبحث عن النشوة كي يبتعد عن سعاد . ويمتلك عبد الحليم شجاعة المقامرة بأن يبلغ ذلك الشخص بأنه سوف يصحب سعاد حسني إلى الرئيس عبد الناصر لتروي له ما حدث معها ، فينزوي المجنون بالنشوة بعيدا عن سعاد ، على الرغم من أن واحدا من أصدقائه هو شمس بدران كتب منذ قرابة شهر أن صلاح نصر كان يسرب أفلام سعاد مع الرجال ليشاهدها عبد الناصر ، ولم يكن من ينطق ذلك سوى هذا المستهتر مجنون السلطة شمس بدران الذي طرده جمال عبد الناصر من منصة الحكم عندما إكتشف عدم قدرته على تخيل آفاق هزيمة الخامس من يونيو التي شرخت إنجازات ثورة يوليو ، لولا تقدم عبد المنعم رياض والفريق محمد فوزي لإعادة بناء القوات المسلحة تحت إشراف مباشر من جمال عبد الناصر ليتحقق نصر أكتوبر بعد الهزيمة بستة أعوام .
ومنذ أن أنقذ عبد الحليم سعاد من تلك الحفرة حتى صارت تراه المنقذ لها من إغتصاب كريه .