الخطيئة الموروثة:
هذه الخطيئة كانت هي الأساس الذي استند إليه الفكر الديني اليهودي في الحكم على المرأة بالسقوط إلى الهاوية. فما هو إذن موقف الإسلام من هذه الخطيئة؟
الإسلام لا يقر أساسا بتوريث الخطايا أبدا والقرآن يقول في هذا الشأن:
) قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( ( الأنعام 164 ).
) مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ( ( الإسراء 15 ).
)وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى( ( فاطر 18 ).
) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ( ( المدثر 38 ).
هذه أربع آيات من القرآن، ولها نظائر أخرى، كلها تقرر مبدأ العدل الإلهي العظيم، الذي لم يحافظ عليه إلا الإسلام. ولم يرعها حق رعايتها إلا الإسلام، وهو يعتمد على مبدأ " شخصية الجريمة "، أي أن الجريمة يحاسب عليها مرتكبها وحده، لا تتعداه إلى والد أو ولد أو زوجة أو قريب.
ومحال أن يحاسب غير المجرم مع المجرم، إلا إذا كان له شركة في الجريمة كالتحريض عليها أو عدم منع وقوعها إذا كان قادرا على المنع، أو الرضا والسرور بها..... إذن فلا وراثة للخطيئة عند الله كما قرر الإسلام.
وفى هذا الإجراء الإسلامي – تشخيصية الجريمة وعدم مساءلة غير مرتكبها عنها – إزالة لكل الشبهات التي استند إليها الفكر الديني اليهودي وبنى عليها مواقفه الظالمة من المرأة، ورميها بأنها أصل الشرور في الحياة الدنيا.
وكما عرفنا من قبل أنهم يقصدون بالخطيئة الأزلية – يعنى: القديمة.. الأبدية.. الدائمة – هي أكل آدم وحواء من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها.
وقالوا: إن آدم وقع في تلك الخطيئة بإغراء امرأته ( حواء ) لأنها هي التي انخدعت بتحريض الحية فأكلت من الشجرة وزينت لآدم الأكل منها فأكل، وأنها لولا إغراؤها لآدم ما غضب الله عليه وطردهما من الجنة إلى الدنيا دار الشقاء والنكد؟
وفى هذا الكلام شبهتان يرد عليهما الإسلام.
أحداهما: اتهام حواء بالتهمة التي قد ألصقت بها.
والثانية: هل تلك الخطيئة أبدية فعلا؟
أما الشبهة الأولى، وهى أن حواء هي التي أكلت أولا بعد أن خدعتها الحية، ثم أغرت حواء آدم على الأكل من الشجرة المنهي عنها، فإن القرآن يبرئ حواء ( المرأة ) من هذه التهمة، وهذا يتضح من النصوص الآتية:
) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ *فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( ( البقرة 35 – 36).
) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ *فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ *وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ *فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ ( ( الأعراف 19 – 22 ).
) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى *فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى *إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى *وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى *فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى *فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ( ( طه 116 – 121 ).
إذا أمعنا النظر في الآيات السابقات يبدو لنا بكل وضوح الحقائق الآتية:
أولا: وسوسة الشيطان وخداعه وإغراؤه على الأكل من الشجرة المنهي عنها، كانت لآدم وحواء معا وليست لحواء وحدها.
ثانيا: وذكرت سورة " طه " أن وسوسة الشيطان وإغراءه على الأكل من الشجرة المنهي عنها كانت لآدم وحده.
ثالثا: أن المواضع التي ذكرناها من القرآن الكريم أجمعت على أن الأكل من الشجرة حدث منهما معا ( آدم وحواء ) في وقت واحد، دون أن يسبق أحدهما الآخر.
ومعنى هذا في إيجاز شديد:
أن حواء ( المرأة ) لم يكن لها أي دور في إغراء آدم عليه السلام في وقوع هذه الخطيئة.
بل إن سياق الكلام في سورة " طه " يوحى بأن آدم – وحده – هو الذي سارع إلى الانخداع بإغراء الشيطان.
ومعنى هذا – مرة أخرى – أن الفكر الديني اليهودي اقترف إثما كبيرا في تحميل حواء ( المرأة ) إثم هذه المعصية.
وبذلك نرى القرآن الأمين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يعلن براءة حواء مما افتراه عليها الفكر البشرى اليهودي، وهذا لا يمارى فيه عاقل ولا مجنون... والحق أحق أن يتبع.
أما الشبهة التي أكثروا اللغو حولها، وهى وراثة بنات حواء إثم الخطيئة التي كانت حواء هي السبب فيها، وتابعها آدم.
هذه الشبهة أوهى من بيت العنكبوت في الضعف، وقد أبطلنا الزعم بوراثة الخطيئة من قبل، وقلنا بناء على النصوص المقدسة المحكمة:
إن الخطايا لا يسأل عنها إلا مرتكبوها. ومع هذا نقول:
أن تلك الخطيئة التي بنوا عليها أوهاما كثيرة ما أنزل الله بها من سلطان – سواء كانت من حواء وحدها، أو من آدم وحده، أو منهما معا على حدٍ سواء – هي خطيئة تخصهما وحدهما، وليس لها سراية على ذريتهما.
هذا هو مقتضى العدل الإلهي، الذي أخطئوا في فهمه، وفى طريق الوصول إليه.
ومع هذا كله، فإن تلك الخطيئة لم تعش طويلا حتى في جانب من وقع فيها، لأن كتاب الله العزيز ( القرآن الكريم ) قد حسم أمرها قبل أن يخرج آدم وحواء من الجنة، فعفا الله عنها، وعاد آدم وحواء إلى براءتهما الفطرية قبل الهبوط من الجنة إلى الأرض، واستأنفا على الأرض حياة جديدة تُحصى لهما وعليهما حسناتهما وسيئاتهما، في طور من أطوار المسئولية والتكليف، والآيات الآتية هي القول الفصل في هذا المجال.
) فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ *قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم *مِّنِّي هُدى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ( البقرة 37 – 39 ).
) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى *ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ( ( طه 121 – 122 )
أعد قراءة هذه الآيات مرة، تجد أن الخطيئة التي وقعت غفرها الله وعفا عنها ولم يعد لها أثر، وأن التوبة في سورتي البقرة وطه خص الله بها آدم وكأن حواء لم تشترك فيها، ومعنى هذا أن آدم عليه السلام هو الضليع فيها، وكانت تابعة له لا آدم هو التابع لها، وفى هذا زيادة تشنيع على افتراءات الفكر الديني اليهودي على حواء وبناتها.
هذه التبرئة الإسلامية لحواء أساس متين لتبرئتها هي وبناتها مما لطخ الفكر اليهودي به سمعة حواء وبناتها من بعدها.
ثم إن خطيئة آدم لم تكن هي التعمد للأكل من الشجرة، إنما كانت خطيئة نسيان العهد الذي عاهد الله عليه.
لقد نسى آدم تحت تأثير إغراءات الشيطان – وليس الحية كما تقول أسفار التوراة – وكان هذا النسيان هو الذنب الذي أحصاه الله عليه لأن آدم من المقربين من الله، وحسنات الأبرار هي هي سيئات المقربين.
نعم، لم يتعمد آدم المعصية، وإنما نسى عهد ربه وهذا ما ورد في القرآن الكريم: ) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما ( ( طه 115 ).
ولو لم يغفر الله لآدم وحواء هذه السقطة لكانت المؤاخذة عليها مقصورة عليهما وحدهما.