نبيل حنفى محمود
مجلة وجهات نظر
كان عام 1923 هو عام الأحداث الكبيرة في تاريخ الغناء المصري المعاصر، فقد عمل محمد عبدالوهاب فى هذا العام ـ وهو في الحادية والعشرين من عمره ـ مع الشيخ سيد درويش في أوبرا كليوباترا التي نظمها أمير الشعراء أحمد شوقي، وسجل محمد عبدالوهاب
ذا العام أيضًا سبع أغنيات على أسطوانات ساهمت فى دعم انتشاره وتأكيد مكانه على قمة الغناء، وقد شهد عام 1923 أيضًا نزوح أم كلثوم من مسقط رأسها ـ قرية طماى الزهايرة ـ إلى القاهرة. حيث التقت لأول مرة بأستاذها الشيخ أبوالعلا محمد الذى لحن لها العديد من القصائد الرائعة مثل "الصبّ تفضحه عيونه" من شعر أحمد رامى والتي وضعتها على قمة الغناء المصرى بجوار محمد عبدالوهاب، وحين بدأ عام 1923 يلملم شهوره الباقية ليدلف إلى غيابات التاريخ.. رحل عن عالمنا الشيخ سيد درويش فى يوم 15 سبتمبر قبل أن يقطف ثمار ما بذره من أفكار متطورة فى تربة الغناء المصري التي لم تنتج قبله إلا التكرار والرتابة، وقبل أن ينصرم عام 1923 بأيام قليلة. وصلت إلى القاهرة سيدة شامية تسحب فى يديها صبيين وفتاة صغيرة وقليلا من المتاع، كانت تلك السيدة علياء حسين المنذر، درزية لبنانية تحمل الجنسية السورية، وكان الأطفال هم فؤاد وفريد وأمل أبناء فهد بن فرحان إسماعيل الأطرش.. شقيق سلطان الأطرش قائد ثورة جبل العرب (1922 ـ 1925) التى اندلعت لتعم سوريا قبل ذلك بعام واحد، جاءت السيدة علياء بأبناؤها إلى القاهرة هربًا من ملاحقة قوات الاحتلال الفرنسى التى استهدفت اعتقالهم لكسر شوكة آل الأطرش الذين كانوا يقودون حربًا شرسة ضد الاحتلال الفرنسى من الشام، كان هرب السيدة علياء بأبنائها من بيروت إلى القاهرة وعبر فلسطين سريعًا حتى أنها لم تحمل معها أية وثائق لتحقيق الشخصية.. مما تطلب اتصال ضابط الجوازات المصرى من منفذ القنطرة تليفونيا بالزعيم سعد زغلول فى القاهرة للحصول على موافقته على دخول السيدة علياء وأبنائها إلى مصر، وحين عبرت السيدة علياء وأبناؤها ميدان باب الحديد ـ رمسيس حاليا ـ فى أحد أيام شتاء عام 1923 فى طريقهم إلى حي باب البحر حيث أقاموا فى أول مسكن لهم بالقاهرة. لم تكن تعلم أن وصول صغيرها فريد إلى القاهرة فى هذا العام سيكون واحدًا من الأحداث المهمة فى تاريخ الغناء المصرى بعد ذلك، ولم لا؟.. وقد صنع هذا الفتى ـ القادم إلى مصر من قلب الثورة فى جبل العرب ـ للغناء المصرى والعربى الكثير، مما جعل موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب يقول عنه: "لا يستطيع أن يتصدى مؤرخ لتاريخ النهضة الموسيقية فى هذه الفترة من عمر الزمن.. دون أن يقف طويلاً أمام فريد الأطرش كرائد من الرواد الأوائل وعلم من أعلام اللحن والغناء لم يحد يومًا عن فنه العربى الأصيل"(1).
ولد فريد الأطرش قبل وصوله إلى القاهرة بثمانية أعوام فى قرية القُريه (بضم القاف) من أعمال السويداء فى جبل العرب بسوريا، لم تنبئ أعوام البداية فى حياة فريد بما آل إليه أمره بعد ذلك، فقد نشأ فى أحد بيوت الإمارة التى ورثها آل الأطرش، ولما كان والده فهد الأطرش هو أول درزى من الجبل يحمل شهادة جامعية من جامعة استانبول فى تركيا، فإن ذلك أتاح للرجل أن يتقلد الكثير من المناصب المهمة فى الدولة العثمانية التى كانت تحكم الجبل وسوريا أو أثناء الانتداب الفرنسى بعد زوال السلطة العثمانية عن الشام، ففى عهد الدولة العثمانية.. عمل الأمير فهد حاكمًا لمنطقة ديمرجى من أعمال إزمير فى أقصى الغرب من تركيا أثناء المراحل الأخيرة من الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، ثم تولى الأمير فهد عدة مناصب قضائية فى عهد الاحتلال الفرنسى لسوريا كرئيس لمحكمة الاستئناف فى السويداء وفى درعا، بعد ذلك رحل الأمير فهد بعائلته إلى بيروت ليعمل معتمدًا للدروز لدى الفرنسيين وقبل قليل من ثورة جبل العرب فى عام 1922، وعندما انضم الأمير فهد إلى الثوار.. هربت أسرته إلى القاهرة خوفًا من وقوعهم أسرى بيد القوات الفرنسية.
قضى الفتى فريد مع أسرته بالقاهرة سبعة أعوام متنقلاً بين أحياء باب البحر وغمرة ومتلقيا العلم من مدارس الفرير بالخرنفش والبطريركية للروم الكاثوليك بحى الظاهر، وإزاء ما تعرضت له الأسرة من حاجة بعد نفاد مدخراتها وانقطاع مدد الأهل.. عمل فريد موزعًا للإعلانات والمشتريات فى محلات بلاتشى بالموسكى بعد انتهاء الدراسة وذلك إضافة إلى تلقيه دروسًا فى عزف العود والغناء على يد والدته وبعض كبار الملحنين مثل داود حسنى وفريد غصن، فقد كانت موهبة الفتى الصغير فى عزف العود والغناء قد ظهرت فى سهرات الأسرة ودروس التراتيل الكنسية بمدارس الفرير والبطريركية، وبين حين وآخر كان فريد يقدم وصلات غنائية فى محطات الإذاعة الأهلية التى كانت تملأ القاهرة آنذاك مثل محطة إلياس شقّال التى تغنى فيها بالعديد من أغنياته الأولى التى جلبت له الشهرة بعد ذلك فى عقد الثلاثينيات، وهكذا ذهبت أيام العز فى ديمرجى وبيروت والسويداء.. لتجيء أيام الكفاح والشقاء والعمل المتواصل فى القاهرة، وبمبادرة من أبناء الجالية السورية بالقاهرة لمساعدة أسرة فريد.. أحيا الفتى حفله الأول فى تياترو برنتانيا بشارع عماد الدين فى مساء السبت 19 يوليو 1930، هذا الحفل الذى نشرت إدارة التياترو إعلاناً عنه لجذب الجمهور فى الصفحة السادسة من عدد الخميس 17 يوليو 1930 من صحيفة الأهرام يقول نصه: "حفلة طرب كبرى فى تياترو برنتانيا: يحيى بلبل العصر فريد بك الأطرش مطرب الراديو بالقاهرة فى التاسعة والنصف من مساء السبت 19 يوليو الجارى حفلة طرب كبرى بتياترو برنتانيا على تخت مؤلف من كبار رجال الفن"، وهكذا.. بدأ الفتى الصغير القادم من جبل العرب أولى خطواته على طريق الشهرة والمجد.
كان النصف الأول من عقد الثلاثينيات هو زمن الكفاح الصعب فى مشوار فريد الأطرش.. الكفاح الذى فتح له الطريق بعد ذلك ليتبوأ مكانه عند قمة الغناء، فبالإضافة إلى دراسته المنتظمة فى المدرسة البطريركية وغنائه فى المحطات الأهلية.. فإنه تقدم فى صيف عام 1933 ليدرس فى المعهد الملكى الموسيقي، هذا مع كونه يعمل بالعزف على العود والغناء مع المنشدين (الكورس) فى صالتى بديعة مصابنى ومارى منصور، وحينما رسب فريد فى امتحان معهد الموسيقى لمادة الغناء بالعام الدراسى الأول وذلك لمرضه.. فإنه ترك الدراسة فى معهد الموسيقى وفى المدرسة الثانوية التى قضى بها عامين ليتفرغ كلية للغناء منذ عام 1934، ولكن عام دراسته الوحيد فى معهد الموسيقى (33 ـ 1934) حمل فى واحد من أيامه مصادفة شكلت نقطة التحول الرئيسية فى حياته، تمثلت تلك المصادفة فى لقائه بالموسيقار مدحت عاصم الذى كان يشغل آنذاك منصب المدير الفنى لمحطة الإذاعة الحكومية التى بدأت إرسالها فى 31/5/1934، استمع مدحت عاصم فى لقاء المصادفة هذا بإعجاب وحب إلى عزف فريد على العود، ولقد ترجم مدحت عاصم إعجابه فى هذه الأيام الأخيرة من عام 1935 فى صورة عقد من الإذاعة لفريد ينص على تقديمه وصلة أسبوعية من العزف المنفرد على العود، فجاءت إذاعة الوصلة الأولى لفريد فى مساء الإثنين 13 يناير 1936، وعندما استمع مدحت عاصم بعد ذلك إلى غناء فريد.. فإن التعاقد الأول أضيف إليه بند ينص على أن يقدم فريد وصلتين من الغناء أسبوعيا لقاء أجر قدره جنيهان للوصلة الواحدة، وفى مساء السبت 21 مارس 1936 استمع جمهور إذاعة القاهرة فى كل مصر إلى عزف منفرد على العود من فريد أتبعه بأغنيته الأولى "بحب من غير أمل"، ثم قدم فريد بعد ذلك خلال شهور أبريل ومايو ويونيو من عام 1936 مجموعة من الأغنيات مثل: "يا ريت تدوقى اللى فى قلبي"، "الشريد"، "يا نسمة تسري" وغيرها حفظت له مكانًا بين مطربى الإذاعة وقتها، لكن الشهرة جاءت إليه بعد أن غنَّى فى مساء الأربعاء 29 يوليو 1936 أغنيته الخالدة "يا ريتنى طير لا طير حواليك" التى نظمها ولحنها الفنان الفلسطينى يحيى اللبابيدى الذى كان يعمل آنذاك مديرًا لقسم الموسيقى العربية بالإذاعة الفلسطينية.