الخوارج .. سياسياً وتاريخياً
شوال 1403ﻫ ق ـ آب سنة 1983م
جعفر مرتضى العاملي
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله الأطهار
ظهور الخوارج:
الخوارج: فرقة ظهرت في النصف الأول من القرن الأول الهجري، وبالذات في مناسبة حرب صفين التي دارت بين امير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الخليفة الشرعي من جهة، وبين معاوية بن أبي سفيان، الذي كان يحاول الاستئثار بهذا الامر لنفسه من جهة أخرى، حيث رأى معاوية: أن علياً سيربح الحرب لو استمرت، فأمر ـ بمشورة من عمرو بن العاص ـ برفع المصاحف، الأمر الذي إنجر إلى التحكيم. وكان أولئك المعترضون على قبول علي للتحكيم هم أنفسهم الذين كانوا قد أجبروه عليه من قبل، كما اعترفوا به هم أنفسهم، كما صرحت به النصوص التاريخية الكثيرة جداً، وهذا ما يكذب ما يدعيه البعض من أن الخوارج كانوا هم المعارضين للتحكيم من أول الأمر.
نعم.. إن هؤلاء قد حكموا على علي عليه السلام بالكفر لأجل قبوله التحكيم الذي أجبروه هم عليه، كما كفروا الخليفة الثالث عثمان بسبب بعض المخالفات التي صدرت عنه في السنين الأخيرة من خلافته، هذا فضلاً عن تكفيرهم طلحة والزبير وعائشة وغيرهم.
ثم إنهم خرجوا على علي عليه السلام وحاربوه، وكان من جملة ما احتجوا به لحربهم إياه: أن قالوا: "زعم أنه وصي فضيّع الوصيّة" كما ذكره اليعقوبي، نعم وهؤلاء بالذات وأتباعهم هم الذين سموا بالخوارج، وهم محط بحثنا الآن.
موقف علي عليه السلام من الخوارج:
وقد عالج أمير المؤمنين عليه السلام قضية الخوارج بحكمة ومرونة، ثم بحزم وبحسم ايضاً، حيث حاول أولاً أن يقنعهم بخطأهم في تصوراتهم ومواقفهم، فناقشهم ووعظهم هو وأصحابه: ابن عباس وغيره، وأقاموا عليهم الحجة، حتى رجع منهم الألوف.
ويلاحظ هنا: أنه عليه السلام ينهى ابن عباس عن أن يخاصمهم بالقرآن، فإن القرآن حمال ذو وجوه، ولكن يخاصمهم بالسنة، فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً.
كما أنه هو نفسه قد التزم بذلك إلى حدٍ كبير، حيث نجده يهتم بأن يحتج عليهم بأقوال النبي(ص) وأعماله بالدرجة الأولى، فاحتج عليهم بأنه (ص) قد رجم الزاني ثم صلى عليه وورثه أهله، وقتل القاتل كذلك، وقطع السارق وجلد الزاني غير المحصن، ثم قسم عليهما من الفييء، ونكحا المسلمات، فأخذهم (ص) بذنوبهم، ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام ولا أخرج أسماءهم من بين أهله.
واحتج عليهم أيضاً بمن النبي (ص) على أهل مكة فلم يسب نساءهم ولا ذريتهم، وبمحوه (ص) كلمة: (رسول الله) من صحيفة الحديبية، وبإعطائه النصفة لأهل نجران، حيث قال: "ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين" وبتحكيمه سعد بن معاذ في بني قريظة الذين نقضوا العهد.
ولكن.. رغم كل تلك المحاولات والمواعظ والاحتجاجات، ورغم رجوع الألوف منهم عن غيهم، فقد بقيت بقيّة حوالي أربعة آلاف أبو إلا البقاء على ما هم عليه، ومحاربته، وقتلوا الأبرياء، حتى النساء، وأخافوا السبيل، وأفسدوا في الأرض، فاضطر عليه السلام لمحاربتهم لدفع شرهم، وإخماد نار فتنتهم، فحاربهم، وقتلهم، ولم يفلت منهم إلا أقل من عشرة كما لم يستشهد من أصحابه إلا أقل من عشرة، كما أخبر به عليه السلام قبل ذلك.
ويقول المؤرخون: إن الذين أفلتوا من القتل قد اصبحوا بذرات بذرات أخرى للخوارج في مناطق عديدة فيما بعد.
وأما أولئك الذين استأمنوا، فقد صاروا يخرجون على عليّ عليه السلام وعلى غيره بعد ذلك، فخرج منهم ألفان على الإمام في النخيلة فقضى عليهم. ثم صار الخوارج يخرجون عليه في شراذم قليلة في بضعة مئات او أقل أو أكثر في الأنبار، وماسبذان، وجرجرايا، والمدائن، وسواد الكوفة، فكان يقضي على حركاتهم تلك الواحدة تلو الأخرى بيسر وسهولة.
أنا فقأت عين الفتنة:
ويقول عليه السلام عن حربه للخوارج ولغيرهم:
"أنا فقأت عين الفتنة، ولم تكن ليجرؤ عليها أحد غيري بعد أن ماج غيهبها واشتد كلبها".
وفي رواية أخرى لهذا النص بدل ذيل الكلام: "ولو لم أكن فيكم ما قوتل الناكثون، ولا القاسطون، ولا المارقون"
وفي نص آخر: "ما قوتل أصحاب الجمل والنهروان".
ويبدو أن سر ذلك هو أنه قد كان على رأس الناكثين: طلحة والزبير، وهما من أهل السابقة في الإسلام، ثم أم المؤمنين عائشة زوجة الرسول، وبنت الخليفة الأول أبي بكر، المرأة الذكية والشجاعة، والتي كانت تحظى بعناية ورعاية خاصة من قبل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، الذي يتميز بعظمة خاصة في نفوس الناس، وشاع وذاع عنه ما لا يمكن تجاهله أو إنكاره.
وكان معاوية يتزعم القاسطين، وعمر هو الذي جعله على بلاد الشام، وكان يعامله معاملة متميزة، وبقي على عمله إلى أن توفي وعمر، ثم طيلة خلافة عثمان، وتربى أهل تلك البلاد على أفكاره واتجاهاته، وأصبحت بلاد الشام سفيانية كما أشار إليه الأصمعي وغيره. ثم هناك الشبهات التي كان يلقيها معاوية في الناس بالنسبة لمقتل عثمان.
أما المارقون.. فكانوا معروفين بالعبادة والزهد، فالإقدام على حربهم وقتلهم لم يكن أمراً سهلاً وميسوراً لكل أحد.
أما علي عليه السلام.. فقد كانت مكانته بين المسلمين معروفة لدى كل أحد، وكانت الأمة لا تزال تسمع من وعي النبي(ص) الكثير الكثير مما يدل على فضله، وأنه مع الحق والحق معه، وانه منه بمنزلة هارون من موسى. حتى ليصبح قتاله للخوارج ولغيرهم حتى عائشة دليلاً صريحاً على تعديهم وظلمهم، أو خطائهم في موقفهم على الأقل.
نعم.. وقد رأينا الكثيرين من الخوارج عليه ـ عليه السلام ـ يشكون في صحة وسلامة موقفهم منه، حتى إذا جاء العهد الأموي بدءً من معاوية قالوا: قد جاء الآن ما لا شك فيه. ثم أخذوا على عاتقهم مهمة قتال الامويين بكل ضراوة وعنف، كما هو معلوم.
يتبع