وشهد سمير صبري المعركة المسرحية بين الموسيقار والعندليب!
كتب الراحل محمد بديع سربيه عام 1990:
خلال السهرة الممتعة والحافلة التي كان سمير صبري يحتفل فيها بذكرى ميلاده, وحوله عدد كبير جداً من الزملاء والزميلات, كان يجيء الى مائدتي بين الحين والآخر, ويهمس, لي بحكاية تذكرها, أو معلومة جديدة يخاف أن تهرب منه الى النسيان..
والذين كانوا معي على المائدة قالوا لي لو أنك ستنشر في «الموعد» كل ما رواه وسيرويه لك سمير صبري لاحتاج ذلك الى حلقات لا تقل عن المائة ولكنني طمأنت رفاق السهرة الى أن الحلقات لن تزيد عن الخمس والعشرين, وصحيح أنها طويلة, إلا أن كلاً منها مليئة بالأحداث, التي قد لا تكون معبرة فقط عن السيرة الذاتية للنجم المتعدد المواهب, بل وأيضاً عن خلفيات الحياة الفنية في الإذاعة, والتلفزيون, والسينما, خلال مرحلة كثرت فيها المتغيرات على كل صعيد!.
وفي إحدى المرات التي أخذني فيها سمير صبري الى صالون جانبي, قال لي:
- ألن تذكر «المعركة» التي حضرتها أنا وكانت بين عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش..
فقلت له:
• اذاً نسمعها منك بالتفصيل!.
فأجاب:
- اذن, نجلس هنا لوقت قصير!.
إن سمير صبري تدرب على العمل الإذاعي المسرحي من خلال حفلات أضواء المدينة, التي كان صاحب فكرتها هو الدكتور محمد عبد القادر حاتم, الذي كان نائب رئيس الوزراء للإعلام والثقافة والسياحة, وقد اعتبرت هذه الحفلات في يوم من الأيام أكثر وسائل الإعلام تأثيراً على الجماهير.
ومع تكاثر الحفلات, وظهور سمير صبري كمقدم لفقراتها الفنية, فإنه بات بالنسبة لنجوم الغناء المذيع المفضل الذي يسعدهم أن يقدمهم في حفلاتهم..
وفي أحد أيام «شم النسيم» كان هناك حفلتان ستقامان في وقت واحد..
حفلة يقيمها الموسيقار فريد الأطرش..
وحفلة ثانية منافسة لها يقدمها عبد الحليم حافظ..
وكان سمير صبري صديقاً للإثنين..
ولم يكن يعرف أي حفلة سوف يقدمها هو, لأن ذلك كان يتوقف على مذيع حفلات «أضواء المدينة» جلال معوض الذي كان عليه أن يختار حفلة أي من النجمين سوف يقدّم..
واختار جلال معوض أن يقدّم حفلة عبد الحليم حافظ..
وهكذا كان على سمير صبري أن يقدّم حفلة فريد الأطرش..
وقال النجم المتعدد المواهب وهو يصف ما حدث في تلك الفترة:
- يومها, تقرر أن تذاع حفلة الموسيقار فريد الأطرش في التلفزيون, وأن تذاع حفلة عبد الحليم حافظ من إذاعة «صوت العرب» ويومها قال لي عبد الحليم بذكاء شديد:
- انت حتروح حفلة فريد طبعاً لأنها مذاعة في التلفزيون, كويس, بعدما تخلص شغلك تعال الى حفلتي..
وأكمل سمير صبري حديثه عن حفلة فريد الأطرش فقال:
- كانت مقامة في قاعة سينما «قصر النيل» والحاضرون عددهم مهول, لأن فريد الأطرش عاد في تلك الليلة لعشاق فنه بعد غياب طويل, وكان البرنامج يتضمن غناء من: فهد بلان, وسعاد محمد, والعديد من الفنانين وكان الموزع الموسيقي اندريا رايدر هو الذي يقود الفرقة, وبعد عزف مقدمة أغنية الربيع قُدمت الحفلة وأذكر أنني وقفت على المسرح لأقول «أدي الربيع عاد من تاني..» واستمر الناس يصفقون بمجرد دخول الموسيقار فريد الأطرش بدون انقطاع لمدة عشر دقائق, وأنا واقف بجواره على المسرح مذهولاً..
وأكمل سمير صبري القصة:
«أذكر أن أربعة أو خمسة من الصحافيين كانوا يومها يجاملون عبد الحليم حافظ على حساب فريد الأطرش, ثم يجاملون فريد على حساب عبد الحليم, فكنت أنا في الكواليس أراهم يأتون ليقولوا: «ذهبنا حفلة عبد الحليم حافظ فوجدناها «مهوية», و»مفيش مخلوق», ثم يذهبون الى حفلة عبد الحليم فيقولون: «فريد حفلته «واقعة» ولا يوجد فرد واحد «بيصقف» وفريد نايم وصوته خلص»..
والمهم أنني بعد أن انتهيت من تقديم حفلة فريد الأطرش, ذهبت الى حفلة عبد الحليم حافظ, وأذكر أن العندليب الأسمر كان في غاية التوتر عندما ظهر على المسرح, وفور ظهوره والتصفيق الحاد له, صرخ أحد الحاضرين: يا كايدهم! فأوقف عبد الحليم الفرقة الموسيقية عن العزف, ثم وجه كلامه الى الرجل الذي صاح بهذه الكلمة وقال له: أحب أقول للأخ اللي قال: يا كايدهم! اني مش كايد حد أبداً!..
وبعد انتهاء حفلة عبد الحليم حافظ, ذهب كل الصحفيين والإذاعيين الى بيت فريد الأطرش الذي كان قد أعد لهم مائدة «شم النسيم» وأذكر أن أحد الصحفيين صرخ في بعض الحاضرين قائلاً: يا ولاد الايه, كلكم كنتم عند عبد الحليم وبتشتموا في فريد الأطرش اللي قاعدين تاكلوا دلوقت في بيته, وكانت هذه هي المرة الأولى التي أدخل فيها الى بيت فريد الأطرش, وقد سجلت ليلتها مقابلة تلفزيونية له, وكان فيها صادقاً وطيباً, ولهذا السبب كانت الكلمات تخرج من فمه بلا ترتيب!.
وانتهى سمير صبري من رواية هذه الحكاية الممتعة, وعدت معه من جديد الى الحفلة التي كانت تتوالى فيها الفقرات الغنائية التي لم يكن يقدّمها هو, لأنه اعتبر نفسه في إجازة من العمل, وما دام قد غنى لكل معارفه وأصدقائه من أهل الفن في مناسباتهم السعيدة, فمن حقه عليهم أن يغنوا في المناسبة السعيدة الوحيدة التي يحتفل بها مرة في السنة, مناسبة ذكرى ميلاده!.
.. ولكن الحديث استمر بيني وبينه بعد نهاية الحفلة, وكانت خيوط الفجر قد بدأت تتسلسل وتبدد الظلام!.
وفي «كوفي شوب» فندق «الجزيرة شيراتون» وبينما كنا نتبادل قهوة الصباح سألت سمير صبري:
• وهل أصبح تقديم الحفلات هو مهنتك؟
فأجاب:
- لا, بل اصبحت اهتماماتي سينمائية, وكانت قد مرت أربع سنوات على القطيعة بيني وبين المنتج رمسيس نجيب الذي لم يغفر لي علاقاتي الطيبة بمطلقته النجمة الممثلة لبنى عبد العزيز, ولكنه فيما بين العامين 1971, 1972 أراد رمسيس نجيب إعادة إنتاج فيلم «إرحم دموعي» ليتم إخراجه من جديد تحت عنوان «حب وكبرياء» وكان دوري في هذا الفيلم فاتحة خير بالنسبة لي في السينما..
وقلت له:
• ولكن, كيف زال الجفاء بينك وبين رمسيس نجيب؟
وروى سمير صبري ما حدث وقال:
- كالعادة كنت في سهرات الفنانين أمسك الميكروفون وأغني, ورغم «زعل» رمسيس نجيب مني, للسبب الذي ذكرته, فإنه جلس في إحدى الليالي في بيت النجمة الممثلة نجلاء فتحي ورآني أغني, فرشحتني نجلاء لأداء دور في الفيلم, فقال لي رمسيس: «رغم أنك صاحبها - يقصد لبنى - فأنا عايزك تقدّم أغنية في الفيلم, و»راح اخدمك», فكر لي في أغنية وسيتم التصوير في الأسبوع القادم», وفعلاً ذهبت الى الشاعر صلاح جاهين, وأعطيته أحد الألحان الغربية المشهورة في ذلك الوقت, فكتب عليه أغنية «محتار أنا ويا البنات» وسجلته على حسابي, وأخذت الشريط الى الإسكندرية, وصورت الأغنية على البلاج مع نجلاء فتحي, وقد تم عرض الفيلم في نفس العام 1972..
وأضاف سمير صبري:
- وفي ليلة العرض الأولى لفيلم «حب وكبرياء» في سينما «كايرو بالاس» كان رمسيس نجيب يجلس في مدخل دار العرض, وقال لي: تعال يا أستاذ, رغم أنك صاحبها - يقصد لبنى عبد العزيز مرة ثانية - لكن أغنيتك في الفيلم خلت الشبان والبنات كلهم حبوها!
وسألت سمير صبري:
• ما الفيلم الذي صنع بداية تألق شهرتك على الشاشة الكبيرة؟
فأجاب:
- «أبي فوق الشجرة».
قلت:
• أنت مثّلته عام 1969, فلماذا تعتبره البداية الحقيقية لشهرتك مع أنك قبله بثلاثة أعوام مثلت فيلم «عدو المرأة» عام 1966, وتلاه «شيء في حياتي», ثم «عدو النساء»؟
فأجاب المتعدد المواهب:
- كل الأفلام, قبل «أبي فوق الشجرة» لم يلمع فيها اسمي مثلما لمع في هذا الفيلم, فكان أكبر عمل أعاد لإسمي نجوميته منذ مهرجان التلفزيون في منتصف الستينات..
سألته:
• ولماذا؟
وكان رده:
- لأنني في الفيلم قمت بأداء دور صديق العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ, وقدّمت على الشاشة, ربما لأول مرة شخصية الشاب التلقائي الذي ينفق كل ما يكسبه ويجلس على «البلاج» ويردد «النكت» التي أصبحت فيما بعد مشهورة, مثل: «واحد قال للتاني: انت رايح فين؟ فقال: حدائق القبة, قال له «ح تدايقها ليه» هي عملت لك حاجة؟»! وفي هذه الفترة كنت أمشي في الشارع فأسمع الناس يقولون لي هذه النكت, فاستعدت لاسمي بهذا الفيلم لمعانه السينمائي مرة أخرى, باعتباري «مشروع نجم» على الشاشة الكبيرة..
وعدت أقول له:
• وحكاية الغناء؟
فأجاب:
- أنا منذ أن كنت طالباً في كلية «فيكتوريا» كنت أهوى الغناء والموسيقى, وفي كل مناسبة أجد نفسي أمسك بالميكروفون وأغني, وفي إحدى المرات كنت أزور صديقي الموسيقار عمار الشريعي فقال لي:
- غداً سأذهب الى فرح أحد أصدقائي, فتعال معي لنتسلى!.
وفعلاً ذهبت مع عمار, وكعادتي أمسكت بالميكروفون, وغنيت الأغنية الفكاهية المشهورة: «بطلوا ده واسمعوا ده, الغراب يا وقعة سودا» فضحك الحاضرون وصفقوا لي بشدة, وفي اليوم التالي قال لي عمار الشريعي:
- أنا شايف ان عندك مواهب فنية كويسة, ايه رأيك ألحن لك حاجات تغنيها معايا..
وكان عمار الشريعي يومها قد ألّف فريق «الأصدقاء»:
ولكنني اعتذرت وقلت له إنني لا أملك الجرأة, على مواجهة الناس كمغن!.
وقلت للنجم المتعدد المواهب وما زلنا نتناول إفطار الصباح:
• وتوقف الأمر عند هذا الحد!.
فأجاب:
- صح, لم اقتنع برأي عمار الشريعي في أن أكون مغنياً, ولكن, وبعد فترة قال لي عمار إنه سيشترك بألحانه وموسيقاه في حفلة خيرية كبرى, وستكون نجمتها المطربة شادية, وقال لي: إنها فرصة لك أن تظهر معي في هذه الحفلة, وتغني على المسرح أمام السيدة جيهان السادات - وكانت ما زالت زوجة رئيس الجمهورية - وأمام الوزراء الذين سيكون أكثرهم موجوداً في الحفلة.
سألته:
• وحصل؟
فابتسم سمير صبري وقال:
- ده حصل وحصل وحصل «على حد قول شيريهان في فوازير رمضان».
قلت:
• وماذا حصل؟
أجاب:
- إنني غنيت ليلتها في الحفلة التي كانت في قاعة «ألف ليلة وليلة» في فندق «هيلتون النيل» وصفق لي الحاضرون أكثر من ثلث ساعة, وكان أول ما غنيته أغنية المطربة العالمية الراحلة داليدا «يا صلاة الزين» ثم أغنية أم كلثوم «قلي ولا تخبيش يا زين» وما ان انتهيت من الغناء حتى كانت تنتظرني مفاجأة!
سألته بفضول:
• ايه هيه؟
وأيضاً أجاب:
- بمجرد انتهائي من الغناء, جاء اليّ السيد محمود أبو وافية, عديل الرئيس أنور السادات, وقال لي: الهانم عايزة تهنيك!! وأخذني فعلاً الى مائدة السيدة جيهان السادات فبادرتني قائلة: الريس زعل من اللي حصل لك في التلفزيون..
وأضاف:
- المهم أن الحديث بيني وبين السيدة جيهان السادات كان رائعاً وودياً ومريحاً بالنسبة لي, ومع ذلك فقد أخذ أعدائي في اليوم التالي يقولون: إني أنا الذي ذهبت الى مائدة جيهان السادات لأتوسل اليها أن تعيدني الى التلفزيون, وهذا كذب والدليل أنه بالرغم من كل كلمات الإرضاء التي سمعتها قبلاً من السيدة همت مصطفى, المستشارة الصحفية في رئاسة الجمهورية, ثم من السيدة جيهان السادات شخصياً, فإنني عزمت على هجر التلفزيون, وترك برنامج «النادي الدولي» الذي لم يقدّمه أحد من بعدي!
قلت:
• وأصبحت مغنياً بعد ذلك..
أجاب:
- وألفت مع عمار الشريعي فرقة كان فيها أربعة موسيقيين فقط, وشيئاً فشيئاً بدأت أتعود على الغناء بمفردي, ثم تطورت الأمور معي, فقد ألحّ عليّ سامي الزغبي, وكان مديراً عاماً لفندق «شيراتون القاهرة» بأن أقدم في مسرح «الهمبرا» استعراضاً غنائياً راقصاً كل ليلة, وهذا ما حصل, وألفت فرقتي «ايه وان» التي ما زالت تعمل والحمد لله, بنجاح كبير.
قلت له:
• وهذه الفرقة لها حكايات تحتاج وحدها الى حلقات جديدة..
فأجاب:
- يبقى أعمل استراحة, لأن القراء قد لا يتحملون أن تطول هذه الحلقات عني أكثر من ذلك!
* * *
وكانت الشمس قد ملأت الـ«كوفي شوب» في فندق «الجزيرة شيراتون»..
وانتهى الحديث مع المتعدد الذكريات والمواهب..
وأعمل بنصيحته, وأتوقف بالذكريات عند هذا الحد.. ■
«محمد بديع سربيه»