ذكريات ونجوم/ أطول حديث مع عمر الشريف (الحلقة الأولى)
November 15, 2015 - العدد رقم 2621
والدتي لبنانية، وأبي سوري، وجدتي كانت ملكة جمال
عرّافة في الإسكندرية قالت لي: ستصبح مشهوراً في الدنيا كلها
من ثقب الباب تفرجت على ملك مصر وهو يأكل في بيتنا
النجم الراحل عمر الشريف كان من أهم النجوم في العالم العربي والغربي وفي هذا الحديث الذي أدلاه لـ «الموعد» عام 1978 تحدث عن الكثير من محطات حياته الفنية والشخصية.
■ ■ ■
وكان السؤال الأول:
• هل خطر لك يوماً أن تدرس شجرة عائلتك؟
ويتكلم:
- إن والدتي تقيم الآن في إسبانيا مع أبي، ومعهما شقيقتي ماجدة، المطلّقة، والتي تعمل كوكيلة لبعض مؤسسات التجميل الأوروبية، والدلال الذي تمنحه لي والدتي عندما تزورني في بيتي بباريس، هو أن تطهو لي المأكولات اللبنانية الشهية التي أحبها وتجيد هي صنعها. وعندما تكون والدتي معي، أتأملها بحيويتها الدائمة وأتذكر والدتها التي هي جدتي.. إن والدتي هي لبنانية الأصل، ومن عائلة «سعادة» في جبل لبنان وابن خالتها كان الشيخ سامي الخوري أول سفير للبنان في مصر بعد الاستقلال.. أما والدتها، أي جدتي، فهي من عائلة «العبد الله» في حمص بسوريا، وكانت واحدة من خمس بنات اشتهرن بجمالهن، بل كانت جدتي هي أحلى أخواتها.. أما والدي أنا فهو من دمشق، يعني من أصل سوري، ولكنه هو ووالده ولدا في الإسكندرية، وأنا أعتقد أن عائلة «شلهوب» الموزّعة بين سوريا ولبنان هي من أصل واحد..
• وعمر الشريف، ولد أيضاً في الإسكندرية، وفي فيللا من دورين، وهو عندما يحضر إلى القاهرة لا يذهب لزيارة هذه الفيللا لأنه كما يقول:
- لا أحب الرجوع إلى الماضي.. وأيضاً لا أفكر في المستقبل.. إنني أعيش الحاضر فقط.. ولكن ذلك لا ينسيني ذكريات طفولتي.. ما زلت أذكر ـ مثلاً ـ أن تاريخ ميلادي هو العاشر من نيسان (أبريل) عام 1932.. وأيضاً ما زلت أضحك عندما أتذكر شكلي وأنا صغير، كنت بديناً جداً لدرجة أن والداي أدخلاني وأنا في الرابعة من عمري إلى مدرسة داخلية، وكان هدفهما الأساسي أن يقل وزني وليس أن أتعلم. وبالفعل فإن الطعام السيئ في المدرسة جعل شهيتي للأكل تتضاءل بعد أن كانت مفتوحة جداً.. وهكذا زالت بدانتي وأصبحت رشيقاً..
• ولكن، عندما يجالس النجم العربي العالمي الذي بدأ الشيب يغزو مفرقيه عائلته الصغيرة، التي تزوره بين الحين والآخر في باريس، ألا يستعرض معها، أحياناً، ذكرياته طفولته؟
يقول بدون أن أسأله:
- أكثر ما أتذكر طفولتي عندما أكون مع شقيقتي ماجدة.. إنها تصغرني بست سنوات، وعندما أقبلت هي على الدنيا شعرت نحوها بتلك الغيرة العفوية التي يشعر بها أي طفل يكون وحيداً لوالديه، ثم يجيء طفل آخر لسلبه جزءاً من الدلال الذي كان ينصّب عليه وحده.. وهكذا، فإنني شعرت بالغيظ عندما ولدت شقيقتي ماجدة، وبدأت ألاحظ بأن الدلال قد تحوّل إليها.. كان أبي يحبها جداً، ويحنو عليها، ويسبغ عليها حماية خاصة، حتى أنه كان يرغمني على أن أطفئ الراديو في غرفتي لكي لا يزعجها صوت الموسيقى، ولقد جعلني هذا كله أتجه إلى طلب الحماية والحنان من والدتي التي كانت بدورها تحبني كثيراً جداً، بل وكانت معجبة بما وصفته بأنه ذكاء مبكر تظهر بوادره عليّ.. ومرات كثيرة كانت تقول لقريباتها وجاراتها أن «ابني ميشيل هو ولد غير عادي.. إنه طفل معجزة»!.
أقول لعمر الشريف:
إذن، كانت والدتك تقرأ على لوحة الغيب سطور مستقبلك؟
ولا يجيب على السؤال، ولكن يتابع الحكاية:
- أنا كنت آخذ الكلام الذي تقوله والدتي عن نبوغي المبكر على أنه نابع من عاطفتها.. ولكن، وبعد سنوات قليلة، وعندما بلغت الثلاثة عشر سنة من عمري أخذني بعض رفاقي إلى عرّافة يونانية كانت تقيم في أحد أحياء الإسكندرية الشعبية، أنا شخصياً لم أكن مهتماً بالذهاب إليها، لأن مستقبلي لم يكن قد بدأ يشغلني أبداً، والسعادة لم تنقصني في حاضري.. ومع ذلك فقد ذهبت إلى هذه العرافة بدافع الفضول.. وعندما جلست أمامها أخذت تنظر إلى عيني بشيء من الدهشة، وقالت لي: «ستصبح مشهوراً في كل أنحاء الدنيا يا بني.. وستكسب مالاً كثيراً كثيراً، والحظ سيحالفك في كل مراحل حياتك، أنت إنسان غير عادي.. ولكن ومع الأسف، أنك لن تعيش في مصر طويلاً!» ويومها فقط بدأت آخذ والدتي عن نبوغي وعبقريتي بشيء من الجد!.
وأحاول أن أعرف:
• هل عشت طفولتك كلها في الإسكندرية؟؟
وهو يستمر في الكلام:
- لقد عشت طفولتي في الإسكندرية لأنها كانت مقر عمل والدي الذي كان يومئذ من أكبر تجار الخشب، وكان يكسب كثيراً مما جعله من كبار الأغنياء في العاصمة المصرية الثانية كما أصبح هو ووالدتي من نجوم المجتمع في النوادي الثلاثة التي كانت تؤمها الطبقات الراقية.. ولقد ولدت أنا في العاشر من نيسان (أبريل) 1932، وأدخلت بعد سنوات إلى مدرسة «فكتوريا» وكان والديّ يحاولان تربيتي بشكل يجعل مني إنساناً نظامياً، صحيح أنهما كانا يسرفان في تدليلي، وفي إجابتي إلى كل ما أطلبه، إلا أنهما كانا أيضاً يبديان نحوي بعض القسوة عندما يلاحظان أنني أحاول جعل حياتي غير منظمة..
ولكن:
• متى انتقلت، أنت والعائلة إلى القاهرة؟
وهو يتذكر:
- عندما بدأت أعي ما حولي وأستوعب أمور الدنيا.. كنت في الرابعة عشرة من عمري، وانتقلت مع العائلة للإقامة في إحدى عمارات في «جاردن سيتي» في القاهرة.. كانت العمارة فخمة ومؤلفة من اثني عشر دوراً نشغل منها نحن دوراً كاملاً وفخماً، خصوصاً وأن انتقالنا من الإسكندرية كان في الوقت الذي اشتعلت فيه الحرب العالمية الثانية، وأقفلت المرافئ والموانئ، ولم يعد ممكناً استيراد أي شيء من أوروبا وارتفعت أسعار الكميات الكبيرة من الخشب الذي كان والدي قد اختزنها في المستودعات بعد أن اشتراها بثمن بخس. وهكذا قدر لثروته أن تكبر ويصبح من الأغنياء المرموقين، وبالرغم من أننا عائلة مسيحية نعيش وسط مجتمع أكثريته إسلامية، فإننا ولا مرة أحسسنا بأي فارق.. لأن مجتمع مصر لا أثر فيه للتعصب..
وشباب عمر الشريف، أو ميشيل شلهوب:
• ماذا كانت طبيعة هذا الشباب؟
هو يتذكر:
- عندما جئت إلى القاهرة بدأت أعيش كإنسان مستقل إلى حد ما، واختار أصدقائي الذين معهم ألهو، وأسهر، وأشاهد الأفلام، وكانت حفلات «البارتي» هي المكان الوحيد الذي كنا نستطيع فيه أن نلتقي بالفتيات ونراقصهن ونغازلهن، ذلك أن صداقة الشباب والفتيات لم تكن سهلة في أيامنا كما هي سهلة الآن، وأنا من صغري أحب النساء، ولهذا فإنني في سن المراهقة كثيراً ما كنت أصحب أصدقائي الشبان إلى مسرح الأوبرا لاشاهد النساء في الفرق الاستعراضية، أو أذهب إلى ملاهي الليل لأتأمل مفاتن الغانيات الشقراوات اللواتي كن يجئن من أوروبا..
وأساله:
• هل كان والدك يعطيك المال الذي يمكنك من السهر واللهو..
ويجيب:
- قليلاً .. ولكني كنت أقتصد من مصروفي اليومي لأنفق على حياتي الخاصة، وعلى المشاوير والسهرات التي أقوم بها مع أصدقائي، ولكن، وفي إحدى المرات، وجدت نفسي في مأزق مالي.. فقد ذهبت أنا وبعض الأصدقاء لتمضية السهرة في النادي الليلي الذي كان يقع في «روف» فندق «سميراميس» المجاور لمنزلنا.. وانضمت إلينا بعض فتيات تعرفنا بهن خلال السهرة، وكان طبيعياً أن يصبح حساب المائدة كبيراً. وعندما مددت يدي إلى جيبي، وجدت مبلغاً زهيداً لا يكفي ثمناً لعدة كؤوس.. وسألت رفاقي إذا كان معهم المبلغ الذي سنحتاج إليه لدفع الحساب، فأجابوا أن جيوبهم خاوية.. وعندئذ ولكي أكمل السهرة بنشوة وفرح، فقد غادرت الملهى فوراً، وذهبت إلى بيتنا القريب، وكانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، ودخلت على أطراف أصابعي إلى غرفة شقيقتي ماجدة، واستوليت على كل ما في «حصالتها» من فلوس، وكان مبلغاً جيداً، ثم عدت إلى الملهى وأكملت السهرة وكأني واحد من الأثرياء.. ولكن، وفي الصباح، استيقظت من النوم على صراخ أختي التي اكتشفت خلو حصالتها من الفلوس، وتأكدت من أنني استوليت عليها، وهرعت إلى والدي لتشكوني إليه، ومن حسن حظي أن والدي كان هادئ الأعصاب يومها، فدفع لها المبلغ الذي أخذته منها، ووفّر عليّ أن أعيده لها من مصروفي الشخصي اليومي..
وحياة عائلة «شلهوب» في القاهرة:
• كيف كانت؟
هو يقول:
- طبعاً كان أبي هدف أنظار الطبقة الراقية في النوادي التي تجتمع فيها، لأن ثراءه الشديد كان يشدّ إليه الاهتمام، وكذلك فإن والدتي كانت تلفت الأنظار بجمالها وجاذبيتها ومظهرها الذي يشبه مظهر فاتنات الشاشة.. ولقد زاد اهتمام الطبقة الراقية بوالدتي، عندما كانت تذهب يومياً إلى «نادي محمد علي» الذي يلتقي فيه كبار الأثرياء من التجار السوريين واللبنانيين واليهود المقيمين في مصر، وهناك كانت والدتي تمارس هوايتها الشديدة للعب، وتقامر بمبالغ جيدة لأن المال الذي في متناولها كثير، وكلما ربح والدي في صفقة تجارية، استطاعت هي أن تقامر بمبالغ أكثر، حتى أنها لفتت ذات ليلة اهتمام الملك فاروق، الذي كان يتردّد على هذا النادي باستمرار، وكان يقامر على مائدة قريبة منها، فأرسل إليها سكرتيره «بوللي» ليدعوها إلى اللعب على مائدة الملك، وفوجئت والدتي، وحاولت الاعتذار بقولها أنها تلعب بمبلغ محدود وليس عندها القدرة على مجاراة الملك، ولكن.. وفي هذه اللحظة.. جاء والدي ودعاها إلى أن تترك مائدتها وتنتقل إلى مائدة الملك..
وأسأل عمر الشريف بصراحة:
• هل كان والدك يريد التقرب من الملك!
وبصراحة أكثر يجيب:
- طبعاً.. أي إنسان في ذلك الوقت كان من أغلى أمنياته أن يكون مقرباً من ملك البلاد، وقد ذكرت لي والدتي أنها ترددت عندما دعاها والدي للانتقال إلى مائدة الملك، وقالت له إن الملك يلعب بمبالغ كبيرة جداً، وهي لا تستطيع أن تلعب بمبالغ اكثر من التي اعتادتها.. فابتسم والدي وقال لها: لقد تكلمت مع الملك، وقال لي انه أجرى بعض التحريات عني، فعرف أنني أملك أموالاً وفيرة، وباستطاعتي أن أمدك بالمال الكثير لكي تلعبي معه، فلم أستطع مخالفة أمره السامي، فتفضلي والعبي معه بأية مبالغ يريدها!! ولعبت أمي مع الملك على مائدة واحدة، ومن يومها أصبحت هي ووالدي من المقربين جداً إليه، بل أن فاروق كان بعد ذلك يعتبر والدتي وجه السعد له، ويتفاءل بالربح عندما تكون إلى شماله على المائدة الخضراء، ولم يكن يبدأ بقطع الورق في لعبة «الباكاراه» إلا عندما تحضر هي!..