منذ62 عاما كتب عبد الحليم حافظ بقلمه مقالا
عن تجارب حياتية خاضها وهو مطرب مشهور
وقد قامت مجلة الكواكب عام1954 بنشر المقال بتوقيع عبد الحليم حافظ
إعداد: أحمد عبد المقصود
30 مارس 2016
الكواكب
لقد قلت للجميع إنني مخلص لحبي الأول, وإن عهد الوفاء له أقوي من أن يدعني ألين لنظرة أو ابتسامة. واخترت أن أضع بنفسي نهايات قصصي بدلا من أن أتركها للأقدار...
الأولي, دقيقة العود, ذهبية الشعر, رقيقة النبرات, حلوة اللفتات, يبدو أنها تلميذة مدرسة, جاءت ذات ليلة لتصافحني, وكنا وراء الكواليس في أحد المسارح وقدمت لي أتوجرافا لأوقعه, ووقعت الصفحة الأولي لأنني وجدت كل صفحاته بيضاء..
وقرأت العبارة التي كتبتها, وهي عبارة تقليدية عن التمنيات وما يناسب المقام, وأحسست أنها تريد أن تقول شيئا, ولكنها خرجت في سرعة, ولم يشغل الأمر من تفكيري شيئا, إلا حين عادت الفتاة في الليلة التالية, ومعها نفي الأوتوجراف وطلبت مني أن أوقعه ووقعت في الصفحة الثانية, وسألتها: لماذا لم يوقع أحد غيري؟
فأجابتني قائلة: لأني لسه ما قابلتش حد من الفنانين والذي يثير الدهشة أنها جاءت في الليلة الثالثة وطلبت مني أن أوقع علي الصفحة الثالثة, وقبل أن أفتح فمي بسؤال قالت لي: ما تحاولش تسألني عن حاجة.. أنا جبت الأوتوجراف علشان تمضيه أنت كله, قلت لها وأنا أضحك: طيب أمضيه كله دلوقت وأريحك من المشاوير, فقالت غاضبة محنقة: يعني مش عاوزني أجي علشان أشوفك, وقبل أن أجيبها ولت هاربة..
إنني أراها كثيرا, وهي لا تحاول الاقتراب مني, بل تنظر لي من بعيد.. لبعيد, وكلما حاولت أن أتحدث إليها لأزيل ما علق بنفسها من غضب أسرعت وأفلتت.
أريد أن أقول لها إنني أحب.. وإن لي حبيب لن أنساه..
أحب الفن, وأحب بناء مستقبلي أولا!
والثانية مجنونة من بورسعيد..
لتسمح لي أن أصفها بمجنونة, فالذي فكرت فيه ليس علي الإطلاق من بنات أفكار بنت عاقلة.
كنت أغني في مسرح الإذاعة العائم, وكانت الأغنيات التي تسجل ليلة تغني تذاع في الليلة التالية, وقد علمت فتاة بورسعيد أنني أغني في المسرح العائم فتحدثت إلي مدير الإذاعة وطلبت إليه أن يوصل إليها أغنياتي عن طريق التليفون وهي علي استعداد لأن تدفع كل تكاليف المكالمة.
وحولها المدير إلي المذيع المختص, فأفهمها الأخير أن من المحال أن تسمع عبد الحليم وهي في بورسعيد, وقال لها أن تنتظر إلي اليوم التالي لتسمعني في الإذاعة..
ولكنها أصرت وألحت, وإزاء الإصرار والإلحاح أقفل المذيع السكة!
وبحثت عني المجنونة في نقابة الموسيقيين ونقابة الممثلين ومكاتب الإذاعة.. ولم تجدني.
وذات الليلة, وقبل أن أبدأ الغناء في المسرح العائم تلقيت برقية طويلة روت لي فيها المجنونة ما فعلته لكي تسمعني واستحلفتني أن أسعي لدي المسئولين لتسمعني في تلك الليلة بالذات, ولكني لم استطع أن أفعل شيئا..
وفي اليوم التالي تلقيت برقية أخري كل كلمة فيها تقع تحت طائلة قانون العقوبات في مادة القذف!
أرجو لها وقتا طيبا, وعقلا راجحا.
والثالثة قابلتها علي الشاطئ
كنت في الإسكندرية ذات صيف, وأنا أعتمد علي أن الناس لا يعرفونني لأنني لم أظهر علي الشاشة بعد هذا عدا من رآني علي المسرح, وعلي هذا فأنا أستمتع بالبحر دون أن يلتف الناس حولي كما يفعلون مع المشاهير من نجوم السينما.
وكانت هي في الكابينة المجاورة.. لا تنزل إلي الماء, ولا تترك من يدها الكتب, ولها تأملات طويلة يخيل إلي تنسي فيها كل شيء حولها.
وكانت لا تعرفني, وناداني أحد أصدقائي باسمي كاملا ذات يوم, وسمعت هي الاسم فتلفتت ورأيتها تبتسم, للمرة الأولي منذ رأيتها..
واختفي صديقي في الكابينة, ووجدتها تترك الكتاب وتغادر المقعد وتسألني:
- أنت عبد الحليم ؟:
- أيوة
ووقفت حائرة لا تجد ما تقول, فقلت لها وأنا أشير إلي مقعد:
- اتفضلي اقعدي
فقالت: لا.. أنا راجعة علشان أقرأ القصة.
وتركتها تعود أدراجها, وبعد دقائق جاءت أختها الصغيرة تحمل خطابا رقيقا تعرض فيه جارتي الصداقة البريئة..
وأجبتها في خطاب آخر أنني أحب.. وإن لي حبيبا لن أنساه.. أحب الفن, وأحب بناء مستقبلي أولا..
ولم أعد أراها بعد ذلك, فقد اختفت من علي الشاطئ, بكتابها ومقعدها وتأملاتها الطويلة.
والرابعة جريئة, جرأة تشكك في سلامة تفكيرها.
قابلتها وأنا أغني في حفلة خاصة, وكانت تتحدث عني حديث الإطراء الذي لا يملك الإنسان أمامه إلا أن يتمتم بعبارات لا معني لها, وقد فعلت ذلك فزادت في الإطراء حتي أنني للمرة الأولي في حياتي.. لم أجد ما أقوله..
وكانت جريئة لأنها بدأت بدعوتي إلي الغذاء في اليوم التالي. مع أن هذا واجب علينا ورفضت الدعوة لارتباطي بدعوة سابقة فأبدت استعدادها للذهاب معي لهذه الدعوة السابقة وتملصت منها فتحدثت عن العشاء, ثم غذاء اليوم الثالث, ثم تحدثت عن السينما.
قلت لها في النهاية: بصراحة أنا ما حبش أقبل دعوات من حد,
فقالت: إذن أقول لك أنا عاوزة إيه بصراحة.. أنا غنية وعندي أرض وأملاك, وما عنديش مانع أتجوزك,
قلت لها: أنا عندي مانع.. لأنني أحب.. وإن لي حبيبا لن أنساه.. و....,
وهي الآن تحاربني في كل مكان تجلس فيه, تقول عني إنني أفشل مطرب, وإنني سأفشل في كل ميدان أنزل إليه.
أدعو من أجلها.. موتورة الهوي!
ولي من المعجبين بي أصدقاء أعزاء.. لي صديق من سوريا, تحدث إلي الآنسة سامية صادق المشرفة علي برنامج ما يطلبه المستمعون, وقال لها أنا عاوز عبد الحليم حافظ,
فسألته: عاوز أنهي أغنية له,
قال: عاوزه هو شخصيا,
أمام إلحاحه قدمته لمن يعطيه عنواني, وجاء يحمل لي هدية فاخرة, كتابا من شعر الغناء للخيام ورامي ومجموعة من الشعراء.
وعندي معجب صعيدي
إنه يقول إنه معجب بصوتي, ولكنه سيزداد إعجابا به لو أنني غنيت له بالصعيدي..
وهو ثري ذو مال وضياع, وقد عرض علي أن أكون مغنيا خاصا له, وسيضمن لي مرتبا شهريا, ويزوجني ويورثني
وهو الآن يعتقد أنني نسيبه المنتظر, وعريس الغفلة الذي وضعه في جيبه..
ولكني أقسم لكم أنني أحببت الفن, ولن أرضي بسواه فتاة قلب, أو زوجة عش جميل.
>>>>>>>>>>>