في اليوم الأخير من شهر آذار «مارس» 1977 فتح عبد الحليم حافظ عينيه وألقى النظرة الأخيرة على من كانوا حول سريره في غرفته في مستشفى «كنجز كوليدج» في لندن، ثم عاد يغمض عينيه الى الأبد.
وانتهت أسطورة النجم الذي بقي لامعاً، محبوباً ومنتشراً في عالم الغناء العربي على امتداد ربع قرن، وسكت الصوت الشجي الذي كان يطرب الملايين من العرب، والذي هزّ المشاعر والأعطاف بآخر قصيدة غناها «قارئة الفنجان» وجعل، هو، من هذه الأغنية، نشيد النهاية..
إن عبد الحليم حافظ وهو يعاني من آلامه في المستشفى، كان يحلو له أن يبقى وحيداً في غرفته، فقط لكي يدير شريط أغنية «قارئة الفنجان» ويوقفه كل مرة عند مقطع «فطريقك مسدود يا ولدي» ثم يعيد سماعه، وكلما سمعه تترقرق في عينيه الدموع وعندما رآه صديقه ومستشاره ومحاميه ومدير شركته المحامي مجدي العمروسي، على هذه الصورة أكثر من مرة، وعندما لم يفلح في إقناعه بالتوقف عن سماع المقطع الذي يوحي بالتشاؤم، ينتزع مجدي الشريط من جهاز الكاسيت، ويقذف به من نافذة الغرفة.. و.. ينفعل العندليب الأسمر احتجاجاً وحزناً، ويرجو صديقه ومستشاره أن ينزل الى الحديقة ويستعيد الشريط، وهكذا كان!.
انني جلست مع مجدي العمروسي، ورحنا - ونحن على مقربة من الذكرى الثالثة لغياب العندليب الأسمر - نتذكر بعض ما حدث في أيام عبد الحليم حافظ الأخيرة لنحاول أن نعرف من خلال قراءة الأحداث والتفاصيل الصغيرة إذا كان الفتى الأسمر النحيل الوجه والقوام يحس بدنو أجله، أو يشعر في أعماقه بأن النهاية الحزينة قد اقتربت..
إن ما يذكره الدكتور شاكر سرور، الطبيب الخاص لعبد الحليم حافظ، هو أنه في الخامس والعشرين من شهر آذار «مارس» 1977، دخل الى غرفة العندليب الأسمر في مستشفى «كنجز كوليدج» وقال له:
• أنا مطمئن الآن يا عبد الحليم الى أنك في رعاية أطباء ممتازين.. فدعني أسافر الى القاهرة لأنني مرتبط بموعد هام في 31 آذار «مارس». وإذا شئت فإني سأعود اليك بعد هذا التاريخ!.
فردّ عبد الحليم حافظ، بصوته الهادئ الحزين، على طبيبه المرافق قائلاً:
- انتظر كام يوم يا دكتور شاكر.. وأنا أوعدك انك تكون في القاهرة يوم 31 مارس!!.
وانتظر الدكتور شاكر سرور..
ونفّذ العندليب الأسمر وعده..
انه كان، هو والدكتور شاكر، في القاهرة يوم 31 مارس!.
وعاد معه عبد الحليم حافظ ولكن.. محمولاً على الأكف!!..
اذن.. هل كان عنده الإحساس المسبق بالنهاية!.
مجدي العمروسي يقول:
• كان عبد الحليم يحيّرني منذ اللحظة التي ركب فيها الطائرة من القاهرة الى لندن، في آخر رحلة له.. إن تصرفاته كانت مزيجاً من التفاؤل والتشاؤم، كان يبدر منه ما يدل على إحساسه باقتراب النهاية، ثم يبدو منه ما يشير الى تصوّره بأن هذه النهاية بعيدة.. بعيدة جداً!!.
سألت مجدي العمروسي:
• هل كنت معه عندما غادر القاهرة في آخر رحلة..
أجاب:
- لا.. إنه ألحّ عليّ في السفر معه، ولكني كنت مضطراً للسفر الى الخليج العربي لأعمال عاجلة تتعلق بشركة «صوت الفن»، ووعدته بأن ألحق به الى لندن فور الانتهاء من هذه الأعمال، وسافر عبد الحليم الى لندن في منتصف كانون الثاني «يناير» 1977، وذهبت أنا الى الخليج، وعدت الى القاهرة في أواخر الشهر، لأفاجأ بأن الموسيقار محمد عبد الوهاب قد ترك لي رسالة شفهية في البيت يشدّد فيها على أن أكلّمه حال وصولي، وفي أية ساعة.. وأدركت هنا أن الموسيقار الكبير يريدني لأمر خطير، وإلا لما شدّد على اتصالي به في أي وقت، حتى ولو بعد الساعة الثانية عشرة عند منتصف الليل، وهو الموعد الذي يدخل فيه الى غرفة نومه ولا يعود يكلّم أحداً، أو يسمح بأن يكلّمه أحد!.
إن مجدي العمروسي في اللحظة التي أُبلغ فيها برسالة عبد الوهاب، طلب بالتليفون الموسيقار، فرد عليه بنفسه وكأنه كان بانتظاره، وبلا مقدمات أو أسئلة مجاملة قال له:
• يا مجدي.. عبد الحليم اتصل بك من لندن، وحالته الصحية «مش كويسة»، وأنا أرسلت زوجتي نهلة لتكون الى جانبه في مستشفى «كنجز كوليدج» وهو يريدك أن تذهب اليه على جناح السرعة، ومعك طبيبه المرافق الدكتور شاكر سرور، لأن الأطباء الانكليز يريدون أن يستوضحوا منه بعض الأمور..
وكانت مفاجأة لمجدي العمروسي، أن يعرف أن عبد الحليم حافظ يقيم في المستشفى..
فإن العندليب الأسمر كان مسافراً للاستجمام، وهو في نفس الوقت كان سيجري بعض التحاليل لكبده كما اعتاد في كل عام، فما الذي أوصله الى المستشفى.. هل أصيب بنزيف؟ هل فاجأته أزمة؟
عبد الحليم حافظ هو الذي دخل المستشفى، ولم يطلب اليه أي من الأطباء الدخول..
لماذ؟!..
كان عبد الحليم يقيم في الشقة التي اشتراها في لندن، وكانت تقيم معه في هذه الشقة شقيقته عليا، وابن خالته شحاتة، وذات يوم أراد العندليب ارتداء الجلابية البيضاء التي اعتاد أن يرتديها في النهار، وعندما يستريح في البيت، فإذا به يكتشف أنها ضاقت عليه، وتطلع الى بطنه فوجده منتفخاً..
ولأن عبد الحليم حافظ كان قد أصبح خبيراً بحالته الصحية، فقد التفت الى شقيقته وقال لها:
• شايفة يا عليا.. الجلابية مش قادرة تخش..
قالت بعطف:
- يمكن يا حليم سمنت شوية!.
فضحك العندليب الأسمر وقال:
• لا.. دي علامة سيئة.. معناها أن بطني مليانة مية.. ودي حاجة وحشة ومعناها اني لازم اقعد في المستشفى من قبيل الاحتياط..
وعاد عبد الحليم حافظ الى غرفته بمستشفى «كنجز كوليدج» واعتبر نفسه هذه المرة مريضاً، وليس زائراً يريد أن يجري التحليل ليطمئن على كبده..
وجاء اليه مجدي العمروسي..
وعانقه عبد الحليم بشوق ولهفة وحرارة..
وقال له مجدي معاتباً.. ولكن بحنو بالغ:
• ايه يا أخي.. خضتني.. افتكرت حالتك خطيرة، لكن والحمد لله ها أنا أراك مشرقاً، حلواً، معافى!..
ورد عبد الحليم:
الحمد لله.. أنا بس عندي شوية انفلونزا.. ولكن، برضه عاوز أتكلم معاك في حديث خاص.. ولوحدنا..
وخرج من كان في الغرفة.. وبقي العندليب الأسمر المريض، وحده على السرير وأمامه مستشاره وصديق عمره، ومحاميه، ومدير شركته!.
ومدّ عبد الحليم حافظ يده الى جيب جلابيته وأخرج منها ورقة وناولها لمجدي العمروسي وقال له:
• خذ.. اقرأ هذه الورقة!
إن المحامي والمستشار والصديق توقّع أن يكون عبد الحليم قد كتب شيئاً على هذه الورقة ربما يفتح بينهما باب المناقشة، ولذلك آثر أن يترك الورقة مطوية ويضعها في جيبه، وعندئذٍ قال له عبد الحليم:
• اقرأ الورقة يا مجدي..
وقال المحامي:
- معلهش.. حابقى اقرأها بعدين..
وألح عبد الحليم:
• لا.. اقرأها دلوقت..
واضطر مجدي العمروسي الى قراءة الورقة، فإذا هي عبارة عن وصية كتبها عبد الحليم لتنفذ بعد مماته، وفيها يوصي بكل ما يملك لاخوته..
وكان المحامي الصديق هنا في موقف صعب..
إن ترحيبه بالوصية أو اهتمامه بها قد يوحي الى عبد الحليم حافظ بأنه يعرف.. أو هو متأكد.. من أن الموت قد بات على مقربة من العندليب!.
وأيضاً.. فإنه كمحام، يهمه أن تكون هذه الوصية مكتوبة لأن فيها حلاً للكثير من المشاكل فيما لو انتهى الأجل، ثم ان الكثيرين من الناس يعتبرون مثل هذه الوصية عملاً روتينياً حتى ولو كانوا أصحاء، وما زالوا في ربيع العمر!!.
واضطر مجدي العمروسي، أن يتصنع عدم الاهتمام..
تظاهر.. بعد قراءة الوصية باللامبالاة، ثم رمى الورقة جانباً وقال له:
• يا سلام يا أخي.. الآن فقط فكرت بأن تكتب هذه الوصية.
وتابع يقول بلا اهتمام:
• انك سافرت في عديد من الرحلات الخطرة ولم تكتب هذه الوصية.. وكان ذلك تقصيراً منك، لأن زملائك: أحمد فؤاد حسن، محمد الموجي، وبليغ حمدي، كلهم سبقوك وكتبوا وصيتهم منذ مدة طويلة!.
وبهذه الطريقة، أوحى مجدي العمروسي الى عبد الحليم حافظ، بأن كتابته للوصية ليست إلا أمراً روتينياً يفعله الناس في أي وقت!.
واحتفظ مجدي العمروسي بالوصية، ولكن.. كان المحامي والصديق يتساءل: لماذا.. الآن فقط.. فكر عبد الحليم حافظ بكتابة وصيته وهو الذي لم يفعل ذلك من قبل..
هل يشعر الآن بالخطر..
هل في أعماقه إحساس باقتراب النهاية؟.
ويقول مجدي العمروسي:
• لا أظن..
إن العندليب الأسمر كان يتصرّف أحياناً بالشكل الذي يدل على استبعاده التام للخطر!.
مثلاً.. إنه طلب معلومات وصوراً لسيارة «كاديلاك» كان يرغب في شرائها، ولم يكتف بالتحدث عن هذه الرغبة، وإنما أخذ يتصل تليفونياً بوكيل شركة «كاديلاك» في لندن، ويتفاوض معه، ويساومه، ويحدد له اللون الذي يريده للسيارة ويتفق معه على موعد تسلمه لها!.
وأيضاً، انه اشترى قبل دخوله المستشفى ستائر جديدة لغرفة نومه وأرسلها الى القاهرة، وكان بين يوم وآخر يتصل ببيته ويسأل إذا كان قد تمّ تركيب الستائر التي أرسلها!.
وأيضاً.. وأيضاً، ان عبد الحليم حافظ اشترى من لندن كاميرا تلفزيونية لتركيبها على مدخل بيته في الزمالك، لكي يتمكن، وهو في سريره، من رؤية الذين يدخلون البيت، وذلك على شاشة تلفزيونية مثبّتة أمامه!.
.. وكل هذا يدل على أن العندليب الأسمر لم يكن يفكر بأنه يعيش أيامه الأخيرة..
ولكن.. مجدي العمروسي يقول:
• ان «حليم» كان جشعاً الى أبعد حد في معرفة أية معلومات عن حالته الصحية، ولولا أنني لا أريد أن أتهم بالمبالغة لقلت إنه الوحيد الذي كان يعرف خطورة حالته الصحية عندما كان في مستشفى «كنجز كوليدج» ومتأكداً من أنه لن ينجو من الخطر، ولكن كان عنده من التشبث بالحياة، والإصرار على مقاومة المرض، ما يجعله يقنع نفسه ومن حوله بأن الخطر لا يتهدّده أبداً!
ولكن.. متى تغيّر كل شيء؟!
متى بدأ اليأس يتسرب الى نفس عبد الحليم حافظ ويمحو عن ملامحه بشائر الأمل؟!.
انه اقترب من اليأس بمجرد أن طرح أخصائي الكبد الدكتور روجرز عليه فكرة تغيير كبده، وزراعة كبد جديد مكانه!.
ان عبد الحليم حافظ رفض بشدة.
انه أخذ يقاوم الفكرة ويعلن عن رفضه لها، ويعتبرها مجرد مغامرة من طبيبه الخاص إذا أخفقت فإن الطبيب لن يخسر شيئاً، وإذا نجحت فإنه سيكسب شهرة لا مثيل لها في العالم العربي!.
«لن أغامر..»!.
قالها عبد الحليم حافظ بحسم!.
ولكن.. وحتماً، كان بينه وبين نفسه قد أدرك أن مرضه قد وصل الى النقطة التي لم يعد ينفعه علاج معها، ومن هنا، أقدم على كتابة وصيته، وبدأت تبدر عنه تصرفات إنسان يعيش أيام الوداع!.
إن الأطباء كانوا قد أعطوا تعليماتهم بأن لا يرد عبد الحليم أبداً على أية مكالمة تليفونية، ولكنه رفض هذه التعليمات وأخذ يمسك بسماعة التلفون طوال ساعات ويتحدث الى جميع من يستطيع الاتصال بهم عبر الخط التليفوني الدولي!.
وكان أيضاً يخالف تعليمات الأطباء عندما يقوم من سريره، ويأخذ في تنسيق وترتيب زهور السلال التي كانت تصل اليه كل يوم بالعشرات من المعجبين والطلاب، ولم يكن لهذا التصرف سوى معنى واحد، هو أنه يريد أن يشغل نفسه بأي شيء، لكي لا يخلو الى نفسه ويفكر في النهاية التي اقتربت!.
ومرة.. جاء مجدي العمروسي، كعادته، الى المستشفى في الثامنة صباحاً، فلم يجد عبد الحليم حافظ في غرفته، ولا في سريره، ولا في حمام الغرفة، وبحث عنه، فوجده في بهو المستشفى، يجلس على مقعد ويخبئ وجهه براحتيه، واقترب منه مجدي وأمسك بيديه وأزاحهما عن وجهه، فرأى الدموع تتدفق غزيرة من عينيه، وعلى الفور، تغلّب العندليب الأسمر على مظهر الضعف هذا، واستعاد ابتسامته..
وتكرّر الموقف ذاته، في الأيام التالية، وأكثر من مرة..
ان عبد الحليم حافظ كان يعرف بأن النهاية على الأبواب..
ولكنه.. مع ذلك، لم يكن يريد الاعتراف بذلك، وخصوصاً أمام المحبين الذين كانوا حوله في تلك الفترة!.
وفوجئ مجدي العمروسي يوم السابع والعشرين من آذار «مارس» بعبد الحليم حافظ يقول له:
• احنا تذاكر العودة اللي معانا على أي شركة؟
فقال مجدي:
- زي العادة.. على الخطوط الجوية البريطانية!.
ورد عبد الحليم:
• طيب يا مجدي.. غيّر التذاكر.. المرة دي عاوز أسافر على الطائرة المصرية!.
ولم يفهم مجدي العمروسي السبب!
ويوم الثلاثين من آذار «مارس» 1977 كان عادياً جداً في مستشفى «كنجز كوليدج» في لندن..
غرفة عبد الحليم لا جديد فيها..
زهور هنا.. وهناك.. محبون وأصدقاء على الكراسي.. عبد الحليم في سريره..
وارتدى العندليب الأسمر ثيابه!
وغسل شعره ثم جففه بالسشوار.
وأخذ مقصاً صغيراً وراح يقلّم أظافره!.
وفجأة، حدث النزيف الذي كان علامة بداية النهاية!.
ومساء الثلاثين من آذار «مارس» سكت صوت عبد الحليم حافظ الى الأبد..
وكما أراد.. عاد الى القاهرة على الطائرة المصرية!.
ومن يوم رحيله ودنيا الغناء تعيش في حزن عقيم..
لا صوت شجي، لا نغم حلو، لا كلمة جميلة..
وحتى المطربون الذين كانوا في أيام عبد الحليم حافظ يرفعون أصواتهم بالاتهامات له بأنه يحاربهم ويمنع عنهم التألق، هؤلاء المطربون أنفسهم، خبا من حولهم البريق، وباتوا يشعرون بأن العندليب الأسمر الراحل كان يملأ الدنيا طرباً، ويجتذب الأسماع الى أغانيه وأغاني سواه..
إن ثلاث سنوات مرت قد أكدت من جديد.. كم كان عبد الحليم حافظ مالئ الحياة الفنية بالإبداع والشجن، والأنغام الحلوة..
إنه رحل.. ولكن ما زال ملء الأسماع ......
--------------------------------------------------------------------------------