دقائق معدودة تفصلنا عن بدء "الأمسية الموسيقيّة: سماع وتحليل" التي يُقدّمها المؤرّخ الموسيقي الياس سحّاب مطلع كل شهر. وقد إختار لهذه الأمسية عنوان، "عبد الحليم حافظ: أغنيات حديثة قصيرة".
"عبد الحليم" الذي أمضى حياته الموسيقيّة الزاخرة بالإبداع، "راوياً" هواجس العاشق المُتعاظمة، هو إذاً نديم الأمسية.
كان السؤال، هل ستمتلئ الزاوية المفتوحة على مداها، كما هي العادة، بعُشّاق الموسيقى الذين أمسوا أصدقاء وإن لم يتبادلوا أطراف الحديث؟
في الانتظار يُجري سحّاب مقابلة "عالماشي". يقول في سياق الحديث السريع الإيقاع. برأيي أكتر نوع تميّز به عبد الحليم هو الأغاني القصيرة الحديثة...كان مزاج العصر...".
ها قد امتلأت القاعة بعشرات لم تُخفهم الأوضاع غير الآمنة التي "تُهيمن على الشارع". ينتظرون أن يُنهي سحّاب مُقابلته. "يُفلفشون" بعض مجلات إختاروها من الرفوف التي تنتظر الزوّار. فجأة ينظر المؤرّخ إلى زوجته التي تُرافقه في كل الأمسيات وتُساعده في تقديم المقطوعات المختارة، هاتفاً، "صارت 7؟"، تُجيبه بسرعة، "إلا خمسة!".
في السابعة تماماً تنطلق الأمسية. يروي سحّاب. انه كان للفنان الراحل، "أكثر من خطّ في حياته الموسيقيّة، ولكنني سأحاول خلال الأمسية أن أضع يدي على خطّ قد يكون في رأيي الخط الرئيسي في حياته!".
أضاف: "ليس عبد الحليم الذي استهلّ هذا اللون، على اعتبار ان عبد الوهاب(محمد) هو الذي بدأ فيه". يُسلّط الضوء على بعض مُطربين، ذابت شخصيتهم في الكبير عبد الوهاب. وفي حين كان عبد الحليم تلميذاً لعبد الوهاب وتأثر فيه، "ولكن صارت له شخصيته الخاصة بسرعة. وتمكّن من أن يفرض شخصيته الجديدة على عبد الوهاب المُلحّن...وعلى كل المُلحّنين الذين عمل معهم".
في الأمسية، "سنستمع إلى 6 أغنيات لـ4 ملحنين: محمد عبد الوهاب، بليغ حمدي، كمال الطويل، ومحمد الموجي. والأغاني التي إخترتها، كما ستُلاحظون لا تُعبّر عن مرحلة في حياة عبد الحليم الموسيقيّة تميزت بأغنيات قصيرة ومنها شديدة القصر فحسب، بل ان أكثر ما يُميّزها انها يُمكن أن تكون لمُلحّن واحد...يعني إذا حدن قال انّو الملحّن واحد"...
إلى الأغنية الأولى في الأمسية، "توبة" من ألحان محمد عبد الوهاب، "عبد الوهاب قد يكون الوحيد الذي تأثر بأساتذته كما تأثر بمُجايليه، وفي الدرجة الثالثة تأثر أيضاً بتلامذته. وفي الأغنية أسلوب الموجي والطويل...تلامذته يعني... هنا نرى عبد الوهاب المُنافِس لتلامذته". يُعلّق، "كان يحلو لعبد الوهاب أن يُردّد: أن تكون الأغنية خفيفة فهذا لا يعني انها ليست قيمة فنيّاً".
وميزة هذا العصر الذي كان عبد الوهاب، "يُجدّد شبابه فيه مع بروز تلامذته، ظهور تطوّر شامل يطال الفرقة الموسيقيّة في حضورها البارز...إلى ظهور 2 من أهم الموزعين الموسيقيين، أندريا رايدر(يوناني مُتمصّر) بمزاجه الغربي، وعلي إسماعيل الذي إشتهر كموزّع وملحّن... تشرّبا من روح العصر الى درجة انهما تحوّلا شخصية واحدة مع الملحنين الـ4... وثمة ملحّن خامس لم أذكره ولن نستمع إلى ألحانه مساء اليوم، وهو منير مراد شقيق ليلى مراد".
إلى بليغ حمدي وأغنية، "أنا كل ما قول التوبة"، "وفيها إستعار حمدي الشعر من الفولكلور ولكنه لم يأخذ اللحن منه (الفولكلور).
وعودة إلى عبد الوهاب، و"ع شانك يا قمر"، "لحن من أعذب ما لحّن لعبد الحليم حافظ. من فيلم (أيام وليالي)، وهو الفيلم الأول الذي أنتجه عبد الوهاب لعبد الحليم. وهنا يستعرض عبد الوهاب لعبته المُفضلة في المزج بين تأثره بالموسيقى الأجنبيّة وبين طبيعة الروح العربية. هي لعبة الإنتقال من المقامات القريبة من الموسيقى الغربية إلى الموسيقى العربية...ماشي مع الروح الحديثة ولك الأستذة واضحة يعني!...لاحظوا إلى أي مدى يؤدّي عبد الحليم الأغنية بأمانة شديدة".
يقول، "في رأيي الشخصي، إن عبد الحليم حافظ نزعتو النجوميّة...أفقدته العذوبة وذاك الصفاء الذي تميّز به باكراً...فعندما كان يلتزم إحساسه الصادق ومساحته الصوتيّة كان يُبدع...يعني لم يكن يميل إلى (الضغط) على صوته...وفي إحدى المقابلات التي أجريتها معه كشاب، تجرأت وفاتحته بموضوع الضغط على الصوت أكثر من اللزوم...وفوجئت شخصياً لترحيبه بالملاحظات. وكان الحديث في حضور الراحل الكبير نبيل خوري الذي خُيّل إليه انني أبالغ و(أتواقح)، ولكن عبد الحليم راح يدوّن على ورقة المقاطع والأغنيات التي لاحظت فيها انه يُبالغ في الضغط على مساحات صوته... وأشهد له هذا الموقف وتلك الرحابة في الصدر".
إلى أغنية "مشغول وحياتك مشغول" من تلحين محمد الموجي، مأخوذة من فيلم، "الوسادة الخالية".
ثم كمال الطويل في أغنية "بيني وبينك إيه؟"، "أشهر نمط في التلحين قدّمه كان النمط الوطني. هذا النمط كان طاغياً وأبدع فيه". يُعلّق بعد الأغنية: "أعتقد انكم لاحظتم من خلال السمع ان شخصية عبد الحليم الغنائية كانت قوية، لدرجة أنه تمكّن فعلاً من أن يُقرّب المساحات بين المُلحّنين الذين تخصّصوا في التلحين لصوته، رغم ان كل واحد منهم تميّز بشخصيته... شخصية عبد الحليم القوية جداً كانت نتيجتها تداخل الألحان يعني بيضيّع الواحد هذا اللحن لمن وذاك لمن".
إلى اللحن الأخير في الأمسية، "شغلوني وشغلوا النوم عن عيني ليالي"، "نعود إلى عبد الوهاب الذي نافس الموجي والطويل حتى بعدد الأغاني المُلحّنة لعبد الحليم. دَخَل عبد الوهاب بجديّة على صوت عبد الحليم، وتطوّرت العلاقة ودخلا معاً في شركة وأسّسا شركة إنتاج موسيقي بإسم (صوت الفن)".