تقرير متواضع عن العندليب الأسمر (((عبد الحليم حافظ )))
الكاتب : يسري الفخراني
يرحل البشر.. وتبقي الكلمات تصنع أسئلة كثيرة عنهم!
رحل عبدالحليم.. وتبقي عنه أسئلة: ماذا لو لم يظهر في لحظة ميلاد ثورة يوليو؟ وماذا لو لم يمر علي حياته الفنية زعيم كعبد الناصر يحمل حلم وطن؟ ماذا لو لم يلتقط تلك المشاعر الوطنية ليصنع بها أغنيات؟ ماذا لو لم ينفذ تلك المهام السياسية السرية التي أوكلت إليه؟
هل كان يكفي الغناء العاطفي ليجعل من عبدالحليم حافظ مطربا بعد30 سنة من رحيله؟
إن أغانيه العاطفية هي التي عاشت بلا شك.. لكن ما هي الظروف الأخري التي جعلت عمرها أطول بجانب اختياره لها بعناية وصدق وجهد وصبر وفن؟ هل عبدالحليم السياسي.. دفع ثمن حياة عبدالحليم الفنان حتي الآن؟! سؤال لا أملك إجابته.. لكنه يستحق التأمل.
إن الأسئلة نفسها يجب أن نجد لها إجابة عند السيدة أم كلثوم.
فقد استمرت متقدة.. صاحبة وجود خاص بعد كل سنوات الغياب.. فهل تلك السنوات الخمس التي قضتهما مهمومة بقضايا وطنها منذ منتصف الستينيات حتي موت عبدالناصر قد منحتها حياة جديدة في مشاعر الأجيال وأسقطت عنها مشوار ما قبل الثورة؟!
وهل يفصل المستمع بين التاريخ الفني للفنان.. والتاريخ الشخصي له! إن الأسئلة أحيانا تصبح أهم من الإجابات الجاهزة المعلبة التي تصادر أراء وأفكار ورؤي الأخرين.. فلماذا لا نسأل؟
هل نسأل لماذا خفت الاهتمام الجماهيري بالموسيقار محمد عبدالوهاب بعد سنوات قليلة فقط علي رحيله؟
وإلي متي تستمر رغبتنا في إيجاد تفسيرات جديدة ومتطورة لفن وحياة عبدالحليم؟
متي نكف عن السؤال التقليدي الذي لا يهم إلا اثنين: هل تزوجت سعاد حسني من عبدالحليم حافظ؟.. إن ما يهمنا ليس الزواج والانفصال.. لكن قصة الحب التي صنعت بعضا من فن سعاد وعبدالحليم.. يهمنا أكثر أن نعرف من أجل أن نكتب السطر الأخير في تاريخ فنانة بقيمة سعاد حسني: كيف ماتت السندريلا؟
السؤال ليس تطفلا.. بقدر ما هو أمانة.. حتي لا يظل رحيلها لغزا لا نجد له إجابة كلما طلت علينا من أحد أفلامها الجميلة؟
هل اكتفت بما عاشت؟ أم عاشت حتي اكتفت؟ هل هناك ماضي سياسي خفي وغامض هو الذي طاردها في بلاد الضباب حتي سقطت به من برج الموت؟
(2) في كتابه أعز الناس يكشف مجدي العمروسي عن صديقه عبدالحليم حافظ أنه اعترف له بأن طموحاته الفنية اضطرته في أحيان كثيرة لأن يتخلي عن بشر ساندوه في الطريق إلي النجاح.. حتي يصبح قادرا علي مواصلة السباق إلي القمة دون أعباء أو مسئوليات!
هذا الاعتراف الذي جاء عارضا في صفحات الكتاب ومتأخرا15 سنة عن موعده.. يؤكد أن حليم كان يدير حياته الفنية علي طريقة المذاهب السياسية التي تري أن الغاية تبرر الوسيلة وأن الاطاحة بالأصدقاء مباحة إذا لزم الأمر!!..
تؤكد أيضا أن النجاح له ثمن.. والصعود له ثمن أكبر.. والبقاء هو فن إدارة كل ما تملك.. وما لا تملك!
كان طموح عبدالحليم بلا حدود.. طموح جعله يدير مؤسسته الفنية بعقلية سياسية.. بكل ما تعني السياسة من استخدام حكمة الدبلوماسية أو استخدام أسلحته الأمنية.
(3) لقد سعت نجوم كثيرة في الوسط الفني لتقديم خدماتهم إلي النظام السياسي الذي يعيشون عصره!... والخدمات متعددة ومتنوعة, بعضها بدافع الحب.. وبعضها بدافع الحماية.. وبعضها بدافع اقتناص الفرص والمصالح!
إنها خلطة أوراق وأمنيات وطموحات وأحلام.. خلطة تتشابك فيها الأمور حتي يصعب أن تعرف أين تبدأ الرغبة في العمل من أجل الوطن.. وأين تنتهي الحاجة إلي اقتسام غنائم الوطن!
في بدايات القرن الماضي كان الفنانون جبهتين.. جبهة أخلصت لفنها ووهبته لتوعية الجماهير ضد الاستعمار وإفراز حلم الاستقلال في الشعب ليستمر مطالبا بوطنه كاملا مستقلا.. وجبهة أخري اختارات الطريق الأسهل الذي يرضي نزوات ورغبات السلطة والحكم والنظام فأفرزت فنا يخدر العقل ويطيح بالمشاعر ويلعب بالغرائز ويسرق الحلم من العيون.
وحاول البعض أن يلعب علي الجبهتين: أن يخاطب الشعب ويداعب السلطة.. أن يصبح محكوما وحاكما.. صوت الناس وصوت الحاكم.. ولابد أن هؤلاء كانوا يملكون قدرات خاصة خارقة جعلتهم يخدعون الجميع.. وينفذون من بين السنين دون أن يكشف أحد عن حقيقتهم.. إلا متأخرا! لقد كانوا سياسيين أكثر من رجال السياسة أنفسهم.. ولابد أيضا أنهم كانوا موهوبين في فنهم بصورة جعلتهم يتقنون هذه اللعبة الصعبة التي عاشوا بها كل حياتهم!
ريما المسمار
على الرغم من مرور ثلاثين عاماً على وفاة عبد الحليم حافظ، مازال اسمه حاضراً في أذهان الناس مطرباً بالدرجة الاولى وصاحب مجموعة افلام بالدرجة الثانية كرست اغنياته وتركت أثراً في نتاج السينما المصرية لاسيما الرومنسية. شكل حافظ نموذجاً خاصاً في السينما وبين زملائه المطربين الذين خاضوا غمار التجربة السينمائية، جبلته مقوماته الداخلية والخارجية وملامح الفترة السينمائية والسياسية.
هنا استعادة لحليم الممثل ولأفلامه الستة عشر التي أنجزها بين 1955 و1969.
من الصعب بمكان استعادة أفلام عبد الحليم حافظ كجزء من تاريخ سينمائي أو صناعة رائجة. كما أنه من الصعب أيضاً استخلاص قيمة فنية أو سينمائية ما منها بعد كل هذه السنوات الا من حيث اسهامها في تغذية نوع سينمائي كان رائجاً وقتذاك اي الرومنسي او الغنائي الرومنسي الذي وُلد مع السينما المصرية وصبغ أفلامها لنحو أربعة عقود وكان النوع الذي قُدِّم في إطاره مغنون ومطربون مثل فريد الأطرش ومحمد فوزي وقبلهما محمد عبد الوهاب. المقارنة بين أعمال حافظ السينمائية وأعمال غيره واردة جداً ولكن الصعوبة التي أشرنا إليها بداية تنبع من مكان آخر من شخصية عبد الحليم حافظ نفسها ومن كيانه كمطرب ومن علاقته الخاصة بجمهوره. في حالة الآخرين ـ الأطرش وفوزي وعبد الوهاب ـ يمكن الجزم بأن التجربة السينمائية لم تكن مستقلة ولم تمتلك قيمة خاصة بعيداً من كونها مشروعاً إضافياً لتوسيع رقعة شهرة المطرب ورواج أغنياته.
لا نحتاج الى كثير من الجرأة لنعلن أولئك ممثلين فاشلين وأصحاب تجربة سينمائية لا خصوصية فعلية لها. لا نحتاج الى الجرأة لأن ذلك لن يمس بمكانة أولئك ولا بفنهم وكأن ثمة تواطؤ ما بين الأطراف المعنية من المطربين أنفسهم وبين الجمهور وصنّاع الأفلام وحتى النقّاد على أن يغضوا الطرف أو الأحرى أن ينظروا الى هذه الأعمال من زاوية مختلفة. ولكننا في حالة عبد الحليم حافظ نجد أنفسنا حائرين، متحسبين تجاه إطلاق الأحكام والتسميات الى أن نقتنع بأن "حليم" كمطرب وكممثل شكل حالة خاصة استثنائية، محتفظاً لنفسه بخصوصية ما في أكثر التيارات السينمائية رواجاً وأحياناً استهلاكاً وفي خضم قصص لاكتها السينما مراراً في بعض الأحيان ودفق ميلودرامي في أحيان أخرى، لم يكن غيره ليُسامح عليه. فقد امتلك "حليم" تركيبة خاصة، تضافرت في صنعها عناصر مختلفة، معظمها ينبع من داخله وجزء يسير منها شكلته عوامل خارجية.
نجم الرومنسية
سطع نجم عبد الحليم حافظ الممثل في منتصف الخمسينات من القرن الماضي والواقع ان عقد الخمسينات شهد ذروة الانتاج السينمائي المصري وذروة النزعة الرومانسية في السينما، أو ما اتفق على تسميتها كذلك لوصف الأفلام التي أنتجتها السينما المصرية بداية من الثلاثينات وحتى منتصف الستينات، مع إضافة وصف "الغنائية" الى المصطلح ولا سيما مع الأفلام التي قام ببطولتها مطربون، وتلك بدأ إنتاجها في العام 1932 بعد دخول الصوت الى السينما ـ "أنشودة الفؤاد" لماريو فولبي ـ وترسخت مع فيلم "الوردة البيضاء" لمحمد كريم عام 1933 مع محمد عبد الوهاب وكرّت سبحة مع رجاء عبده ومحمد فوزي وشادية وعبد الحليم حافظ...
شهدت المرحلة كثافة في الانتاجات الرومنسية: "قيس وليلى" لابراهيم لاما، سلسلة أفلام "ليلى" التي لعبت بطولتها ليلى مراد، "رصاصة في القلب"، "غرام وانتقام"، "شهداء الغرام" وغيرها. وامتد انتاج هذه النوعية من الأفلام التي تُسمى مجازاً "أفلام حب" أو "أفلام عاطفية" حتى مرحلة الستينات ولكنها شهدت ذروتها في الخمسينات، فترة ولادة عبد الحليم حافظ السينمائية، وأفلت مع آخر افلامه أي "أبي فوق الشجرة" (1969). لم يكن "حليم" بالطبع الأوحد في ساحة الرومنسية؛ فمع أفلامه الستة عشر برزت أفلام لآخرين، لفرسان الرومنسية وجميلاتها من أمثال عماد حمدي وكمال الشناوي وعمر الشريف ويحيى شاهين وشكري سرحان ورشدي أباظة وفريد الأطرش.. ومن الممثلات فاتن حمامة وشادية ومديحة يسري ومريم فخر الدين وناديا لطفي وماجدة وسعاد حسني وليلى مراد...
إنها الفترة التي شهدت أعظم قصص الحب في السينما المصرية وهي أيضاً فترة حرب ونهضة متقطعة، بدأت منذ ثورة "يوليو" وامتدت الى ما بعد العدوان الثلاثي. غني عن القول ان الرومنسية كظاهرة سينمائية حملها نجوم الرومنسية أنفسهم مع احتفاظ كل منهم بملامحه الخاصة ومميزاته ـ حيث أن الممثل في هذا النوع من الأفلام لعب دوراً مركزياً ليس من خلاله أدائه الخلاّق بقدر ما كان من خلال عملية معقدة تحكمها مواصفات النجم أو النجمة وقابلية الكاميرا لوجهه أو وجهها والاحساس الأول لدى الجمهور بقرب الممثل أو ببعده. يقودنا ذلك الى مواصفات عبد الحليم حافظ وملامحه التي جعلت منه بطلاً رومنسياً من الطراز الأول ليتحوّل بعد ذلك "رمز" الرومنسية في أذهان عشاق السينما ووجدانهم.
مما لا شك فيه انه امتلك قدرة على التأثير من خلال طاقة تعبيرية تركزت في حنجرته قبل أي شيء، وما نجاحه السينمائي إلا استثماراً لذلك التأثير على الجمهور. لا نستطيع بالطبع أن نعزو هذا النجاح الى صوته فقط ـ فهنالك صوت عبد الوهاب أيضاً ـ أو الى شعبيته ـ كانت لفريد الأطرش شعبية كبرى ـ ولكن تضافر هاتين مع ملامحه الخاصة أفضى الى تكريسه نجماً سينمائياً رومنسياً الى جانب كونه نجماً غنائياً. اعتمدت "رومنسية" عبد الحليم في شكل أساسي على شكله الخارجي الذي أوحى بالرقة والشاعرية. وفي أحيان كثيرة الضعف الذي ربما ارتبط مجازاً ببنيته الناعمة الخفيفة.
منحت هذه المظاهر والملامح صدقية كبرى لأدواره، إذ كان يسهل على الجمهور أن يتخيله الحبيب المظلوم أو الشاب الفقير أو الرجل المريض. لقد اكتسب عبد الخليم نوعاً من "العطف" من جمهوره وكان من شأن هذه العلاقة التي تولدت ـ بينه وبين الجمهور ـ القائمة على أحاسيس انسانية بحتة (العطف، الشفقة، التعاطف...) ـ بخلاف مشاعر التفوّق والقوة التي يولدها أبطال سينمائيون آخرون ـ كان من شأنها أن تجعل من "حليم" بطلاً رومنسياً شبيهاً بالجمهور، قوته في قدراته التعبيرية وليس في كونه بطلاً خارقاً أو ثرياً فوق العادة أو جذاباً فيما لا يتصوره عقل. لقد كان "حليم" انساناً "عادياً" تحرّكه كتلة أحاسيس وهو في "عاديته" و"طبيعيته" واقتراب صورته من الجمهور أحال المشاهد بطلاً رومنسياً هو أيضاً لأن "حليم" كان مثالاً على كيفية التحوّل "بطلاً" من دون أن يحتاج الى قوى خارقة.
هذا ما يفسّر في شكل ما تربع "حليم" على عرش النجومية من دون مواجهة منافسين له. فحين دخل "حليم" السينما ورحبت الأخيرة بنجوميته الوليدة، كان تيار الرومنسية، كما أسلفنا، هو السائد بفارسيه المعروفين هنري بركات وعزالدين ذوالفقار الذي قدم العام 1955، سنة ظهور "حليم" سينمائياً، ثلاثة من أبرز أفلامه العاطفية: "إني راحلة"، "أغلى من عينيه" و"شاطئ الذكريات". ومن حسن حظ الفتى الأسمر أن شخصيته وتكوينه وصورته عند الجماهير كانت تناسب اللون الرومنسي، فدخل التيار وفرض ملامح خاصة تختلف عن نحوم ذلك التيار آنذاك مثل عماد حمدي ويحيى شاهين وكمال الشناوي. فالأول كان هادئاً ورومنسياً ولكنه كان جامداً، لم يمتلك قدرة "حليم" على التعبير عن أصغر اختلاجة وإظهار تأثيرها على وجهه. شاهين لم يكن شاباً في كل معنى الكلمة وفرض شكله نموذج الرجل الناضج القوي والمهيمن أما الشناوي فإن أدواره التي تنوعت بين "الخير" و"الشر" (تيمتان متلازمتان للنوع الرومنسي والميلودرامي) جردته من ملامح الرومنسية البحتة. وعلى اللائحة آخرون أمثال رشدي أباظة وأحمد رمزي ولكنهما اختلفا من حيث الشكل حيث كانا يتمتعان بجاذبية فائقة وقدرة هائلة على أسر ألباب الفتيات ـ كرّست أدوارهما هذه الصورة ـ بما لا يتوافق مع ميل المشاهد الى التماهي في الشخصية، وهو ما حققته تركيبة "حليم" البعيدة تماماً من كل ما هو "خارق" أو "فوق العادة". تُضاف الى هذه المميزات الخاصة بكل ممثل صفة قد تخطّوا، عند بروز "حليم" سينمائياً، سن "الفتى الأول"، ومع ذلك استمروا في لعب دوره، بينما كان "حليم" المولود عام 1929 في منتصف العشرينات من عمره. حين كانت سينما "ديانا" تعرض في آذار 1955 أول أفلام "حليم" "أيامنا الحلوة" لحلمي حليم الذي لعب فيه "حليم" دور طالب في كلية الطب البيطري، كانت سينما "ريفولي" تقدم فيلماً لعماد حمدي المولود عام 1909 في عنوان "الله معنا" أمام فاتن حمامة يلعب فيه دور ضابط شاب حديث التخرّج بينما هو في الواقع كان تخطى الخامسة والأربعين. وكذلك بينما لعب يحيى شاهين (المولود عام 1917) في الحادية والأربعين دور الشاب الذي يحب ابنة الجيران لبنى عبد العزيز في "هذا هو الحب" (صلاح أبو سيف، 1958)، كان "حليم" يحب البطلة نفسها في فيلم لأبي سيف أيضاً هو "الوسادة الخالية". لعل الاستثناء الوحيد في تلك الفترة كان عمر الشريف الذي يصغر "حليم" سناً وامتلك من مقومات الشكل والتركيبة ما يؤهله للعب دور "الفتى الرومنسي" ولكنه أفسح له الساحة بتوجهه الى السينما العالمية، فضلاً عن تميّز "حليم" بالغناء والجماهيرية الطاغية التي حققها في عالم الطرب. ولكنه سؤال مشروع ـ ليس هنا مكان مناقشته بالطبع ـ وربما محيّر أن نسأل ما الذي كان سيحدث لنجومية "حليم" لو أن عمر الشريف بقي في مصر والتصق بالسينما المصرية؟
ثمة صفة أخيرة كان "حليم" شبه متفرّد بها عن الآخرين أو لنقل بنسبة أكبر منهم: خلت أدوار "حليم" تماماً وشخصياته من أي إيحاء جنسي. إذا كانت تلك الصفة لصيقة بأفلام الرومنسية حيث العاطفة تقوم على الميل القلبي الذي يجد متنفسه في اللقاء العف والبوح النفسي، إلا أن "حليم" جسّدها أكثر من غيره. حتى في فيلمه الأوحد الذي يلعب فيه دور شاب لاهث خلف الفتيات واللهو ـ "موعد غرام" (1956) ـ لا يلبث أن يتحوّل الحبيب الرومنسي المثالي حين يتعرّف بفتاة مختلفة مع ما يحمله ذلك من إيحاء الى أن أساس المشكلة كانت تعرّفه بنوع واحد من النساء. وهو في ابتعاده من هذه الايحاءات واقترابه أكثر من الحب العذري، كان ـ ربما عن قصد أو من دون قصد ـ يستلهم أكثر خصائص الرومنسية من ذاتية وفردية في اختلافه عن أقرانه الشبان. فهو غالباً في أدواره يحوم داخل دائرة ذاته المغلقة من جراء الحزن أو الكآبة أو العشق، يميل الى العزلة والى الرؤية المثالية للعالم من حوله.
من خلال الصفات الآنفة الذكر، استطاع عبد الحليم أن يقدم صورة البطل الرومنسي في معظم أفلامه الستة عشر التي قدمها في خلال أربعة عشر عاماً، فكان المحب الذي يتخلى عن حبه لصديقه (عمر الشريف) في "أيامنا الحلوة" ويتزوج بأخرى لإنقاذ من كان يحبها؛ وهو الابن الأمين والصادق الذي يفدي ابن زوج أمه حفاظاً على العائلة والمبادئ في "أيام وليالي" (1955)؛ وهو المحب الضائع المتفاني في حب "نوال" على الرغم من أن الأخيرة أوهمته بأنها تحب آخر لتخفي عنه مرضها في "موعد غرام" (1956)؛ وهو الذي يحب بصمت شقيقة خطيبته في "بنات اليوم" (1957)؛ والشاب الذي لا ينسى الحب الأول ويحمله في قلبه حتى بعد زواجه في "الوسادة الخالية"؛ والمحب الذي يرضى بالشقاء وبالابتعاد عن حبيبته حين يعلم أنه سيموت قريباً في "حكاية حب" (1959).
بين حياته والسينما
لا يسعنا في أي شكل من الأشكال أن نحيط بالعناصر كافة التي أثرت في ولادة نجم أو في تحقيق شهرته، كما لا يمكننا حتماً أن نحدد مدى مساهمة كل من تلك العناصر في ذلك النجاح. ولكن في شكل ما، نستطيع القول أنه إذا كان "حليم" امتلك ملامح خاصة تواءمت مع مناخ سينمائي مؤاتي لتصنع منه "بطلاً رومنسياً"، فإن عوامل أخرى ـ لا ندعي معرفتها تماماً ـ وقفت خلف استمراريته وشهرته ولا تزال تغذي حتى يومنا هذا صورته عند الجمهور وحضوره الغنائي والسينمائي على حد سواء. لعله كانت في حياته الخاصة العناصر الكافية لاستنباط مادة درامية لأفلامه منها. وينسب الى الأديب نجيب محفوظ قوله ذات مرة ان حياة عبد الحليم حافظ تحمل كل مقومات العمل الدرامي لبطل مأسوي، بما تتضمنه من حيرة وقلق وألم، بل ان حياته نفسها كانت "بروفة" دائمة للموت المنتظر. تجوب موضوعات الأفلام الرومنسية حول حالات معدودة: اليتم، الفقر، الحب، الحرمان، المرض... اللافت إذاً في ذلك هو اجتماع هذه الظروف في طفولة عبد الحليم وشبابه. في هذا المعنى، جسد "حليم" على الشاشة أحاسيس واقعية مرّ بها في تجربته الحياتية قبل السينمائية، يعكس "الخطايا" (1962) حكايته مع اليتم الذي اختبره في حياته الواقعية طفلاً، بينما يحاكي "حكاية حب" واكتشاف بطله أنه مريض حكاية مرضه الحقيقية الذي عاش في ظل رهبته طوال حياته، أما "نوال" حبيبته المريضة في "موعد غرام" فتتطابق مع تجربته الواقعية حيث من المعروف انه أحب امرأة وكان على وشك الزواج منها حين خطفها الموت. كذلك يقدم "شارع الحب" فيلمه مع صباح (1958) ملخصاً لمسيرته حيث جاء من الريف الى المدينة وووجه بالرفض قبل أن يحقق ذاته كمطرب. وقد يذهب بعضهم في رسم خطوط التقاطع بين حياة "حليم" وأفلامه الى اعتبار "أبي فوق الشجرة" (1969) آخر أفلامه صورة عن تقرّب بعض المسترزقين منه واستغلالهم له.
شكّل هذا "التوحد" بين مصيره ومصائر شخصياته نقطة قوة في تلقي الجمهور لأفلامه ووصل التعاطف معه الى حد خوف بعض الممثلين من الظهور أمامه في أدوار "شريرة" لئلا يؤثر ذلك في شعبيتهم عند الجمهور. وفي هذا تُروى قصص كثيرة. أشهرها رفض هند رستم لعب دور الراقصة "فردوس" أمام "حليم" في "أبي فوق الشجرة" لأنها تؤذيه فذهب الى ناديا لطفي، كما يتردد عن رفض سعاد حسني لدور الحبيبة في "البنات والصيف" (1960) الذي أدته زيزي البدراوي وتفضيلها الدور الثاني عليه (شقيقة "حليم") خوفاً من أن يؤثر ظهورها في شخصية الفتاة التي تصد "عبد الحليم" في مسيرتها السينمائية التي كانت قد انطلقت لتوها بفيلم "حسن ونعيمة" (1960) قبل عام واحد فقط من "البنات والصيف" الذي كان الفيلم الوحيد الذي جمع الاثنين. كما روى الممثل عماد حمدي في غير مناسبة ان الناس ظلوا يلومونه على تلك الصفعة التي وجهها لعبد الحليم في فيلم "الخطايا".
الملامح الخاصة، المناخ السينمائي، الربط بين الواقع والسينما... هذه هي العناوين الرئيسية لمسيرة عبد الحليم حافظ السينمائية. ولكن أحداً لا يستطيع أن يستثني الظرف السياسي والاجتماعي حيث يتبين تأثيره في الانتاجات الفنية عموماً. للوهلة الأولى، قد يبدو "حليم" في الغناء شاملاً وفي السينما متخصصاً، أي أنه في الغناء قدّم الأغنيات العاطفية والوطنية في حين اقتصرت أفلامه على الرومنسية فقط.
ولكن الواقع أن ولادة "حليم" السينمائية بعد سنوات قليلة من قيام الثورة لم تكن لتمر غير متأثرة بذلك. فقد أضفت أفلامه رومنسية على الحياة الاجتماعية، بحيث نشعر بأن تلك الحقبة كانت حُبلى بقصص الحب ورسائل الغرام. في أفلامه، لا نرى موظفاً مرتشياً أو عناصر شرطة صارمة أو قمعية بل ان ضابط الشرطة في أحد مشاهد "الخطايا" يقتسم معه أجره حين يعلم أنه مفلس. كذلك تبدو المنازل في أفلام "حليم" جميلة والشوارع نظيفة وأنيقة حتى في الحواري الشعبية. لا مظاهر بؤس في أفلامه وإن وجدت فإنها تتمثل إما بشخصية طريفة كشخصية عبد السلام النابلسي الذي كان يضفي بهجة على الفقر وإما كمرحلة آنية سرعان ما تزول لتبقى منها الذكريات الجميلة فقط.
بكلام آخر، كانت أفلامه متحدثة باسم الثورة، تعكس صورة مثالية عن شعب يأكل وهو يغني وينام على حلم بغد مشرق ويعيش الحب ومن أجله. لذلك نادراً ما نرى شخصيات هذه الأفلام تعاني مشكلات معيشية، بل ان معظمها عاطل عن العمل، لا يتكلف الفيلم عناء تحديد مواقفها في الحياة. ففي "الوسادة الخالية" مثلاً، تعيش الشخصيات مرحلة التعليم الثانوي ومن ثم الجامعي حيث يقعون في الحب ومن ثم يتخرجون ويتزوجون وينجبون من دون إشارة الى متاعب حياتية بل ان معاناتهم نابعة من عذاب الحب فقط وليس من أمور الحياة. في هذا المعنى، يصبح سبب بقاء هذه الأفلام هو نفسه سبب تزلفها، أي أنها تمكنت من اختراق حاجز الزمن بفضل ما تجاهلته من حقائق اجتماعية مباشرة آنذاك ولكنها بالنسبة إلينا تبدو حقيقية، معبّرة عن زمن كان مثالياً.
من التجليات الحديثة لهذه العلاقة بين أفلام عبد الحليم والثورة ما قدمه محمد خان في فيلمه "زوجة رجل مهم" العام 1987 مع أحمد زكي وميرفت أمين. فقد أهدى خان، ومعه كاتب السيناريو رؤوف توفيق، الفيلم الى "صوت وزمن عبد الحليم حافظ" اللذين تمثلا في عشق البطلة لهما، فكان صوت "حليم" حاضراً في الفيلم من خلال ميرفت أمين وكأنما في مواجهة مع القمع والغطرسة اللذين مثلهما أحمد زكي في دور ضابط الشرطة في عهد السادات. لقد تحوّل عبد الحليم بطلاً للفيلم من دون أن يظهر على الشاشة وإنما فقط من خلال أغنياته التي استدعت حقبة كاملة وارتبطت بشخصية أمين الحالمة والرومنسية. في مقابلة أجراها كاتب السيناريو رؤوف توفيق ذكر أن "قوة المفارقة بين الزمنين حيث صوت عبد الحليم في مواجهة صوت السلطة، صوت الأحلام في مواجهة صوت المصلحة، هو الذي أعطى الدراما هذا القدر الكبير من المصداقية" والمفارقة ان اختيار الأغنيات انحصر في العاطفية منها فقط. لعل هذا الحضور الطاغي لحليم وذكراه القريبة دوماً وارتباطها لدى كثيرين بمرحلة سياسية خصبة التحولات سبغت عليه هالة من القدسية أبقته بعيداً من النقد وحصرت حياته بحكايات معروفة سائدة. حتى في السينما، ظلت شخصية عبد الحليم عصية على التناول الى أن قدمها شريف عرفة قبل عامين في فيلم "حليم" الذي لم يكن بعيداً من أجواء الاحتفال لاسيما ان موت أحمد زكي في منتصف تجسيده شخصية عبد الحليم أضاف بعداً تقديسياً الى الشخصية والمرحلة السياسية ليغدو الفيلم استعادة بالصوت والصورة لما نعرفه ولما يحب أن يراه جمهور عبد الحليم حافظ وعشاقه.