عبد الحليم حافظ يكتب : أنا ابن الحرمان الطويل من الطفولة
الثلاثاء 25/مارس/2014 / فيتو
يواصل الفنان عبد الحليم حافظ سرد مذكراته فيقول :
كنت أسمع من علية أن اليتيم مثلي له طريق النور.. وكنت في السيدة زينب شابًا هادئًا.. هادئًا ولست ميتًا.. نعم كنت أكره هؤلاء المؤدبين بافتعال.. كل شىء عندهم خاضع لجدول الضرب.
كنت أحب الفوضى لكن بلا إسراف وأختار ملابسى على قدر فلوسى ولكن بأناقة.. وكانت "عليه" تغزل لى كل شتاء كوفية صوف حتى تحمى رقبتى وكانت تقول لى «علشان صوتك».انتبهت أختى إلى أننى أغنى أمام المرآة أو تحت الدش.. عرفت الانسجام لأول مرة في حياتى وأنا أغنى.
إن الغناء هو المشى على الجسر.. ومن يمشى على الجسر الذي يوصله إلى درجة من الرضا عن نفسه لا يفعل مثل مطربى العصر الذين يقفون متشنجين ويسحب كل واحد منهم نصف ظهره إلى الوراء ويزعق وينتفخ رقبته ويحاول أن يسحب آخر قاع في صوته ويجعل من الصوت كعربة الكارو التي تتوقف فجأة ثم تتمايل يمينً ويسارًا.
كنت أقول لنفسى أن الغناء عندنا كالعربة الكارو، أو العربة الحنطور أو حتى الكارتة كل شئ فيه يتمايل ويهتز ولكن ليس هناك من يتقدم.
عبدالوهاب جالس في القمة يحرك كل شئ وراضى عن كل شئ وخآئف في نفس الوقت على الموسيقى.. ويسمع كل ما في أوربا من أغان ولا مانع من أن يطرز الحانة ببعض ما في الموسيقى الأوربية من جمل موسيقية يمكن أن «تركب» على اللحن الشرقى.
كنت أحس أنى لا أحب الكارو أو الكارتة وقد يكون سبب ذلك في أعماقى.. كما قال لى أحد الأطباء النفسيين «أننى لا أحب أن أكرر سلوكى.. أن لى في كل لحظة موقفًا جديدًا وتصرفًا جديدًا، لعل ذلك هو ابن الحرمان الطويل من الطفولة.
وقال الطبيب: لقد قرأت أكثر من كتاب عن حرارة أهل الشرق وعاطفتهم وبدأ يسمع أغنياتى على شريط تسجيل ويلاحظ انفعالاتى وكان قد قرأ تاريخ مرضى واعتبره تاريخ حياتى وقال لى: «أنك تتميز بكمية حرمان غير عادية.. وهى التي تفجر في أعماقك هذه الحساسية الشديدة وأنت تغنى».
سألنى ألا تعتقد أن الغناء الحزين فيه جزء من التمثيل.. فيه عودة إلى الصراخ القديم طلبًا لثدى الأم وأنت لم تعرف أمك أبدًا.؟. وعندما كبرت كان الغناء هو إعادة للبكاء الحزين والمناغاة.
وضعنى هذا الطبيب على بداية جديدة لرؤية نفسى.. فرحت جدًا لهذه الكلمات كانت تذكرنى بأول أغنية غنيتها «على قد الشوق اللى في عيونى ياجميل سلم» إن أنغام هذه الأغنية نوع من الدموع التمثيلية.. نوع من الصدق مع نفسى والبكاء الملحن والسريع.. أعتقد أننى وضعت نهاية لحكاية العربة الحنطور وأننى بدأت عصر «السيارة» في الغناء الحزين السريع الذي يغوص في أعماق الإنسان.
ولعل هذا هو السر في إصرارى على ألا أغير نفسى ولا أغنى كأحد المطربين الموجودين
ولذلك رفضت أن أقلد غناء «عبدالوهاب»