استمتع بها : نبيل شرف الدين: في مارس آذار الجاري يكون قد مر ربع قرن بالتمام والكمال على رحيل الفنان الكبير عبد الحليم حافظ .. العندليب الأسمر ، ومع ذلك لم يزل صوته المسكون بالشجن النبيل يلمس أوتارا عميقة في قلوب الملايين ، ويثير أشجانهم إلى زمن جميل راح مع حليم و"أيامه الحلوة" مازال حليم حاضراً ومستبداً بعنفوان الحلم، ونشوة المشاعر البكر التي تنبض بها أغنياته، حيث الشوق لمُحب حقيقي ، بمفردات بالغة البساطة والعذوبة نأت عن الارتهان للصورة المفارقة التي رسمها عبد الوهاب وأم كلثوم و فريد الأطرش وغيرهم من كبار معاصريه .. فمن "أهواك" .. إلى "أسمر يا اسمراني" و"قارئة الفنجان" ، مروراً بـ "أعز الناس" و"ضي القناديل" ونهاية بـ "المسيح" و"صباح الخير يا سينا" يبقى حليم كما يردد دائماً صديقه مفيد فوزي "حنجرة نقيم على ضفافها" .. و"حكاية حب غير قابلة للكسر".. أو الإحالة للتقاعد .وقبل أن أشرع في الكتابة عن نجم الغناء العربي الذي شكل وجدان جيل بأسره، وما زال حتى الآن يحتل مكانه فريدة في قلوب الملايين ، فكرت في طريقة مختلفة للاقتراب من صورة حليم ومنزلته في وجدان الناس والبسطاء الذين غنى لهم "حليم" ، ومن هنا كانت فكرة الزيارة التي تأخرت أكثر من ربع قرن لمنزل العندليب على نيل القاهرة .. الشاهد الخالد على كل ما جرى وما سيجري من أحداث وشخصيات .. وحكايات .أول ما لفت انتباهي في الممر المؤدي إلى شقة العندليب ، هي آلاف التوقيعات والحكايات المغمسة بالألم والدموع على الحائط .. سلمى كتبت: "يا فرحة كانت تملأ الدنيا عليّ" .. وليلى كتبت : "صورتك لا تفارق خيالي أبداً .. ستظل دائماً رمز الحب والحرية" .. ووفاء كتبت: "أهواك وأتمنى لو أنساك" ..ونورا كتبت: "لن تجف دموعنا أبداً ولن تسكت قلوبنا عن النحيب .. فرحيلك أكبر صدمة".. وأمل كتبت: "لم ترحل عنا ولم تفارق خيالنا أبداً .. ومن يقل غير ذلك فهو كاذب" .. وياسر كتب: "يا مَنْ علمني الحب يا ليتني ما اتعلمته منك".. وأحمد كتب: "الحزن عليك هو المكتوب يا ولدي" .. وحازم كتب: "لم أشعر بمعنى الفجيعة إلا ساعة رحيلك يا أعز الناس" .. وهشام وشروق كتبا معاً : "كنت أنيسنا في ليالي حبنا وستظل دائماً أجمل نور أضاء حياتنا ونقش حكايتنا" .. لم تدهشني هذه العبارات ، وذلك الحنين إلى مشاعر دافئة في زمن جميل ، ولكني تذكرت عندما قابل عبد الحليم حافظ الفنانة صوفيا لورين لأول مرة وقالت له "سمعت عن شهرتك العظيمة في بلادك, فليتك تُسمعني بعضاً من أغنياتك حتى أعرف سر ارتباط الناس بك" فغنى لها عبد الحليم أغنية "الحلوة" فضحكت صوفيا، وقالت: "لو غنيت هذه المعاني في أوروبا لم يلتف حولك غير المراهقين" ، فقال لها العندليب: "في بلادنا تتوقف مشاعرنا عند هذه المرحلة ، نكبر وننضج ولكننا نعيش بعواطفنا وحنينا إلى الزمن الجميل .. نحن شعب لا يحسب الأمور بالورقة والقلم وإنما بالقلب" .لو كنت يوم أنساكمنزل العندليب يشبهه تماماً ، يشبه حكايته .. هو عبارة عن طابق كامل في عمارة فخمة تطل على حديقة الأسماك بالزمالك وهي ملتقى تقليدي للعشاق والأحبة .. ربما تعلقت أعينهم بشرفة العندليب في الدور السابع وابتسموا ، وربما لا يعرفون أنهم بجوار بيت العاشق الذي منح سنوات عمره غناء للعشق والعشاق , ولكن المؤكد أن عمارة زهراء الجزيرة في شارع حسن صبري تشهد أنه كان هناك نجم للجماهير ورمز لأيامنا الحلوة اسمه عبد الحليم حافظ .حارس البناية يعرف زوار "العندليب" منذ الوهلة الأولى ، ولا يسأل أكثر من سؤال وحيد : "شقة العندليب أليس كذلك ؟ الحاجة عليّة ـ شقيقته ـ تنتظركم" ثم يبتسم ويفتح باب المصعد .وعبد الحليم حافظ الذي ولد في مطلع العشرينيات من القرن الماضي وولدت معه موهبته النادرة التي أصبحت فيما بعد حالة خاصة بين أهل الموسيقى والغناء وقبلة متذوقي الغناء العربي ، ولما أكمل دراسته في المعهد الموسيقي انصرف الى تدريس الموسيقى ولم يكن ذلك هو الطموح بل كان يفكر كيف يصبح علما من اعلام الغناء العربي فهو أول من اكتشف مواهبه ولمس انه قادر على أن يحدث تجديدا في الساحة الغنائية العربية .كان هو وزميله كمال الطويل يحلمان بأغنية يلحنها عبد الحليم ويغنيها كمال وكان يشجع أحدهما الآخر فكان كمال الطويل يرى في عبد الحليم موهبة الملحن ويفكر عبد الحليم بصوت كمال الطويل فهما لم يفترقا في يوم من الأيام أثناء الدراسة، كان عبد الحليم حافظ يستمع إلى عبد الوهاب فيدهش ويحفظ كل أغانيه ويرددها، وقصته مع الغناء طويلة والمهم انه كان يفكر بعكس ما كان يطرح في الساحة الغنائية كان يبحث عن جديد ويريد أن يرتقي بالغناء إلى أرقى مرتبة فكانت أغنية "صافيني مرة" التي لحنها محمد الموجي مع أسلوبها المختلف ورفض الجماهير لها أول وهلة .ثقافة الحبوالعذاب في أغنية حليم كان من طراز فريد ، كان عذابا رومانسيا شفيفاً كالضوء .. يفضي إلي العذوبة ، ولا يدفع إلى الانتحار .. ولعل في ذلك ـ تحديداً ـ يكمن سر بقائها وتحديها الزمن، لأن الخطاب الذي تنطوي عليه لازم أجيالاً متتابعة ، رسخت داخلهم رغبة في الحياة بأقصى اندفاعها ونزقها .. لذلك تمكنت هذه الاغنية من انتاج جيل فريد من العشاق العرب الرومانسيين الذين فاضت أشواقهم عن الحب، وطفقت تلون اقاليم الحياة العربية في السياسة والثقافة والكفاح، أو تسير بموازاتها وترفدها او تتقاطع معها .. وتلازمها رغم كل التحولات .قدم عبد الحليم اكثر من 230 أغنية امتازت بالصدق والإحساس والعاطفة وكانت نموذجا رائعا وميزانا تقاس به الأغاني العربية، ولحلاوة تلك الأغاني وعذوبتها أغفلت الجماهير معاناة ذلك الفنان الذي أحبته وتعلقت به سنوات طويلة مع علمها بتلك المعاناة فقد ولد عبد الحليم في دائرة من الآلام وصاحبته البلهارسيا منذ نعومة أظافره وداهمه المرض وبدأ يزداد ويتفرع كلما تقدم به السن إلا أن هذا الرجل الإنسان الفنان حمل تحت طيات جسمه النحيف كل تلك الآلام ولم يبدها لأحبابه وجماهيره وكانت فلسفته هو أن الجماهير ليس لها شأن بمعاناتك وأمراضك إنما تريد منك ما يفرحها ويدخل على قلبها وعقلها الفرح والطرب الأصيل وفي نهاية مارس عام 1977 توقف ذلك القلب الكبير النابض بالحب والعطاء المشبع بالفن كان يوما شديد الوقع على الفن العربي الغنائي ويوما حزينا كئيبا على الملايين التي عشقت عبد الحليم الفنان الذي يمتاز بأنه ناجح في كل ما قدم من "صافيني مرة" إلى "قارئة الفنجان" ، عاش عبد الحليم بين 1929 وكتب اسمه في سجل الخالدين بعد أن حفره في أعماق وجدان محبي الفن الراقي الجميل .. والزمن الذي كان شاهداً عليه ..في يوم .. في شهر .. في سنةلم يكن عبد الحليم حافظ مجرد مطرب ، بل كان ظاهرة فنية كبيرة وحالة غنائية خاصة ، كان العندليب يحترم الشاعر والملحن والموزع ويطلق اقتراحاته وما يراه مناسبا بأسلوب مؤدب متواضع وكان كل هؤلاء يحترمون آراءه كان عبد الوهاب نفسه إذا عهد بلحن لعبد الحليم لا يحضر معه البروفات ، لأنه يعلم من هو عبد الحليم كان يدقق بأسلوب مثالي في الجمل الموسيقية وكلمات الأغنية وكانت خطواته بتؤده فارتقى السلم بالتدرج وليس بالقفز ، أو كما يقول مفيد فوزي "نجح بالتقسيط" ، وكانت المسافة بينه وبين معاصريه من المطربين شاسعة للغاية بعد أن رفض الأسلوب الغنائي السائد في عصره .. ونحت ذوق جيل عربي كامل .وفي أيام مصر والعرب العصيبة بعد نكسة 1967 كان عبد الحليم حافظ قد نسج قصة بطولية رائعة فقد تحول إلى مقاتل عنيد وجندي صامد يقاتل كأي جندي عربي حين حول دار الإذاعة إلى ثكنة سكنها معه فنانون حقيقيون مثل الأبنودي وبليغ حمدي وكمال الطويل وغيرهم .ويكاد يكون عبد الحليم المطرب الوحيد الذي غنى الأناشيد الوطنية في حفلات جماهيرية فالكل يتذكر "يا أهلا بالمعارك" ، ولا أحد ينسى "المسيح" ، التي تتغنى بالقدس بشاعرية خاصة غير مسبوقة ، و"صباح الخير يا سينا" وهي آخر ما كتب الأبنودي لعبد الحليم حافظ قبل رحيله .ضيف الأكرمينوللعندليب قصة معروفة في المغرب العربي ، تعبر عن فروسية الفنان ونبله ، فقد كان يقود وفدا كبيرا من كبار الفنانين بينهم عبد الوهاب للمساهمة باحياء ذكرى العيد الوطني للمغرب حينما وقع الانقلاب على الملك الحسن الثاني ، وكان حليم وقتها بالاذاعة حينما اقتحم عليه بعض قادة الانقلاب دار الاذاعة ، وطلبوا منه ان يقرأ بيان الثورة فرفض رفضا قاطعا وقال أنا ضيف الأكرمين .. جلالة الملك والأسرة العلوية ، ولن اكون الا الى جانبه مهما حدث ، وهرب إلى الفندق المخصص لإقامته بمساعدة بعض أصدقائه المغاربة ، وبعد فشل الانقلاب عاد عبد الحليم حافظ أبيض الوجه إلى الملك الذي احتضنه وعانقه وهو لم يعانق احدا من قبل وقلده ارفع وسام مغربي لموقفه ومؤازرته وهو ضيف على بلده المغرب ، وظلت للعندليب مكانة إنسانية ومنزلة كبيرة لدى العاهل المغربي الراحل حتى لقيا ربهما .ومن المغرب إلى أقصى الشرق ، وفي الكويت حيث كانت تربطه بهذا البلد علاقة وصفها هو نفسه لمفيد فوزي قائلاً : "علاقتي بالكويت علاقة شخصية .. إنني استطيع أن أقرع باب أي كويتي وأتناول عنده الغذاء .. وأتسامر في ديوانيته من دون أي حرج لي أو له" .. وكان حليم هو المطرب المصري الوحيد الذي غنى باللهجة الكويتية أغنيته الشهيرة "يا هلي" ، وكان ذلك في زمن تسيدت فيه اللهجة المصرية ، وصارت على لسان كل عربي .أشياؤه الصغرىوعودة إلى شقة العندليب ، وقد قسمت بعد وفاته إلى قسمين ، أحدهما تسكنه أسرته المكونة من علية شبانة "شقيقته الكبرى" وابنتها زينب وزوجها المخرج محمد الشناوي نجل الفنان المعروف كمال الشناوي وأولادهما الثلاثة ، وفردوس ابنة خالة العندليب التي تتردد بين الحين والآخر على غرفته المغلقة ، وهذا الجزء الذي تستخدمه الأسرة للمعيشة مكون من غرف عديدة للنوم ومطبخ وحمام ، أما الجزء الآخر فهو يخص العندليب وحده وفيه كل أشياؤه الخاصة ولم يتغير ترتيبها منذ رحيله, صالة كبيرة تفصل بين الجزأين وبها طاقمان للصالون وبعض الأثاث وكان "حليم" يجري فيها بروفات أغنياته ، وشهدت أجمل ذكرياته مع رفاق رحلته محمد الموجي وكمال الطويل وبليغ حمدي ومحمد عبد الوهاب وغيرهم, وهناك أيضاً غرفة صغيرة بها دولاب ملابسه التي وزعتها شقيقته على الفقراء ولم يبق غير بعض البدل التي ارتداها في حفلاته الأخيرة وفي الغرفة نفسها سرير صغير وجهاز تسجيل كان يستمع إليه في لحظات راحته القليلة جداً في مشوار العذاب الطويل الذي سلكه العندليب .في غرف المستشفياتأما غرفة نومه فكما هي لم يتغير وضعها, حتى علامة رأسه على سريره الذي شهد مرضه وأطول ساعات آلامه, كذلك لم يتغير ترتيب حمامه الخاص.. ماكينة حلاقته في موضعها كما تركها قبل سفره إلى لندن, والصابونة التي استخدمها لآخر مرة وزجاجات الكولونيا والعطور.. (كل شئ كما هو يؤكد وجود العندليب في منزله) هكذا بادرتنا شقيقته علية شبانة وأضافت والدموع تنهمر من عينيها: "ربع قرن ولكني لا أصدق حتى هذه اللحظة أنني فقدت شقيقي, صورته لا تفارقني ومنزله لا يزال معبأ برائحته ، وبين الحين والآخر أسمع صوته يناديني أو أراه يجلس مع عبد الوهاب في ركنهما الخاص بجوار النافذة عبد الوهاب يمسك بالعود وعبد الحليم يغني" ، ثم تبكي وتضغط على زر الكاسيت ليتسلل إلينا صوته يغني "في يوم في شهر في سنة" وتقول علية : كانت أقرب أغنياته إلى قلبه .. كان يسمعها كثيراً في أيامه الأخيرة ثم يبكي .. إنها باختصار أغنية حياته ومعها "قارئة الفنجان" .نهج العم حليم ورغم أن هناك أجيالا شابة لم تعاصر العندليب إلا أنها رشحته ليكون مطربها الأول ، وهو ما يؤكده ثبات أرقام مبيعات ألبوماته والاستفتاءات الجماهيرية العديدة التي تتكرر كل عام مع ذكرى رحيله .. فما هي أسرار بقاء عبد الحليم حافظ على عرش الأغنية كل هذا العمر؟في البداية يقول مجدي العمروسي أحد أصدقاء حليم المقربين ، ورئيس شركة صوت الفن المنتجة لألبومات العندليب : هناك أشياء كثيرة جدا تجعل عبد الحليم دائما فوق القمة رغم مرور ربع قرن على رحيله, منها أنه كان مطربا صادقاً مع نفسه ومع جمهوره ، فلم يغن كلمة واحدة لا يقتنع بها ، ولم يوافق على لحن إلا بعد أن يشعر بأنه مناسب تماما للكلمة .. مع ام كلثوملم يكن حليم يقدم فنا من أجل الشهرة أو المال ، وإن حقق كل هذا ، لكنه ظل مهموماً بالناس .. لذلك مازال يقف على القمة حتى الآن لأنه فن صادق.. أما معظم مطربي هذه الأيام فيفتقدون الصبر.. كلهم يسعون إلى الثراء والشهرة السريعة, ولذلك ليس غريبا أن يقدم كل منهم أكثر من 10 أغاني في السنة, في حين أن عبد الحليم كان يستغرق سنة كاملة في أغنية واحدة, ولذلك من الطبيعي أن تعيش أغانيه طويلا وتموت أغانيهم بسرعة , ولو سألت شباب هذه الأيام الذين لم يعاصروا حليم عن أغانيه ستجدهم يحفظونها بالكامل, في حين أنهم لا يتذكرون أي أغنية لمطربي هذه الأيام التي مر عليها شهر واحد فقط .أما الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي فيصف عبد الحليم بأنه كان "أخا وصديقا ومطربا وملحنا وقائدا وعازفاً وقل ما شئت فيه واحتكم" ، ويشرد الأبنودي بعيداً كأنه يرحل في ذاكرته .. يأتي صوته مفعماً بأيام العندليب وزمنه الجميل .. ويقول : "كنا نجلس على مائدة عبد الحليم ونتسامر وكان بيته مفتوحا لكل المثقفين من شعراء وملحنين وصحفيين وكانت المائدة معدة بأصناف الطعام الذي حرم منه عبد الحليم وكنا لا نرى إلا الغبطة والضحك" .ويمضي الأبنودي في سرد ذكرياته مع العندليب قائلاً : "قال لي في يوم أكتب لي أغنية قبل تناول الغذاء وستكون مكافأتك كبيرة جدا وأمر بإحضار الأوراق وبدأت اكتب وكانت أغنية "أحضان الحبايب" ، فسّر بهذا عبد الحليم ولحنت في نفس الوقت واستغرق إنجازها وقتا هو اقل من وقت بث الأغنية نفسها ومنحني مكافأة لم استلم مثلها فيما بعد وفي يوم قلت لعبد الحليم وعلى نفس المائدة "الهوى هوايا" فاستوقفني ضاحكا وقال لي هذا مطلع أغنية فقلت له أبني لك قصر عالي وكنت كلما أضيف كان عبد الحليم يضحك وهو يقول اكتب فهذا قليل عليك أيها الشاعر "الفحل" ، وأنجزنا على هذا المنوال الأغنية وكان بليغ يلحن في نفس الوقت ما أكتبه ، لتكتمل الأغنية في ساعات معدودة ، وهكذا كانت اغلب الأغاني تخرج بصدق وعفوية وهذان سببان أساسيان لنجاح أي عمل غنائي" .ويؤكد الموسيقار عمر خيرت أن عبد الحليم لن يموت لأنه من كلاسيكيات الأغنية المصرية مثل عبد الوهاب وأم كلثوم .. والكلاسيكيات لا تموت حتى في الموسيقى الغربية , فالموسيقى والأغنية الكلاسيكية هي سر الحياة الدائمة لصاحبها بشرط أن تنبع من دراسة وموهبة حقيقية وفهم جيد للبيئة التي تنبع منها.. والأغنية الكلاسيكية تحتاج إلى موهبة خاصة جدا وهذا سر بقاء عبد الحليم حيا طوال السنوات الماضية لأنه لا يستطيع أي مطرب تقديم الأغنية الكلاسيكية إلا إذا كان موهوبا بالفعل وليس من أنصاف الموهوبين. ويضيف عمر خيرت: كيف تموت أغنية كان يستغرق صاحبها في إعدادها سنة كاملة ؟ ، وكيف يعيش مطرب لا يستغرق في إعداد 8 أغنيات أكثر من شهر واحد ؟ .أيامنا الحلوةأما عن السينما فقد سار عبد الحليم في ركب عبد الوهاب فأنتج أفلاما غنائية أضافت إلى مجده مجداً جديداً ، ومنحته مساحة إضافية في قلوب محبيه فمن "الوسادة الخالية" إلى "أبي فوق الشجرة" مرورا بـ "أيامنا الحلوة" و"يوم من عمري" و"دليلة" و"معبودة الجماهير" و"لحن الوفاء" كان عبد الحليم يتألق ممثلا ومطربا وكانت أغانيه الاستعراضية تسير جنبا إلى جنب مع أغانيه العاطفية كما كانت تلك الأغاني عاملاً أساسيا في تحقيق نجاحه سينمائياً ، وفي فيلم الخطايا كان عبد الحليم بحاجة إلى أغنية عبد الوهاب "جئت لا أعلم من أين" لأنها إحدى الحلقات التي تصل أحداث الفيلم ببعضها فلم يتردد عبد الوهاب بمنحها إياه ، وكانت تلك الأغنية مقدمة تعاون بين عبد الحليم وعبد الوهاب ، ثم كان أداؤه المفرط الحساسية لقصيدة "لا تكذبي" ليؤكد هذا التعاون ويدعمه .وهنا حكاية يرويها الناقد محمد العزبي حول علاقة حليم وعبد الوهاب ، فبعد أن طافت شهرة حليم الآفاق كمطرب .. رغبت المنتجة ماري كويني استثمار نجاحه ، فاتفقت مع المخرج إبراهيم عمارة على البحث عن قصة تصلح لتحويلها إلى فيلم سينمائي غنائي ، وبالفعل عثروا على قصة رومانسية ، واستدعي حليم حتى يمثل دور البطولة أمام شادية وحسين رياض، لكن هناك عقبة تمنع حليم من توقيع العقد وهي عقد احتكار سبق أن وقعه مع عبد الوهاب .وهنا حاولت ماري كويني مع عبدالوهاب حتى يستثني عبدالحليم من شرط عدم العمل مع الغير.. ولكن عبدالوهاب رفض وتأجل تصوير فيلم لحن الوفاء الى موعد اخر حتى يتنازل عبدالوهاب عن موقفه وجاءت عبدالحليم فرصة اخرى امام فاتن حمامة وعمر الشريف واحمد رمزي الذي كان وجهاً جديداً في ذاك الوقت، وهي تمثيل فيلم "أيامنا الحلوة" ، فضرب عبدالحليم عرض الحائط بعقد عبدالوهاب وقبل توقيع العقد ، وبدأ التصوير فعلاً ، حيث كانت هناك قضية متداولة أمام المحاكم لفسخ عقد الاحتكار ، وعندما أدرك عبدالوهاب أن عبدالحليم على وشك أن يكسب القضية طلب مقابلته ... ومنحه تصريحاً بالعمل في أفلام الغير بشرط أن يكون تحت أمر شركة صوت الفن في أي وقت لتنفيذ العقد المبرم بينهما من قبل .وسعد حليم بموافقة عبد الوهاب رضاء لا قضاء ، وأخبر ماري كويني بذلك والتي كان لها الفضل في رفع القضية على عبدالوهاب لفسخ عقد الاحتكار الذي تمسك به عبدالوهاب في البداية وكاد أن يقضي على حليم في بداياته. وهكذا تأهب الجميع لتصوير فيلم لحن الوفاء ، حيث كان فيلم أيامنا الحلوة يتم تجهيزه للعرض التجاري، وهو أول فيلم مثله العندليب ، وليس لحن الوفاء .. لكن المنتج أراد أن يضمن لفيلمه النجاح الأكيد فانتظر حتى تم عرض فيلم لحن الوفاء تجاريا ونجح نجاحا باهرا خاصة وأن الفيلم به عدد من الأغاني ضاعفت رصيد حليم في قلوب الناس ووجدانهم .. حتى يومنا هذا ما زال عبد الحليم يحتفظ ـ بعد ربع قرن على غيابه ـ بألق سيبقى قابضا علي وهجه لعقود وربما قرون مقبلة ، ذلك لأن حليم مثل قنطرة في الغناء .. جسّرت الهوة بين الحداثة والأصالة، ولم تنفصل لحظة عن وجدان الناس إلا لتصهره برعشة كأنها الأولى . ,