الأبنودي وحليم.. صداقة "مخابراتية" في حب الوطن
في استوديو "صوت القاهرة" على أشعة أضواء خافتة، ينهمك مع محمد رشدي وبليغ حمدي وفرقة صلاح عرام، في تلحين "بلديات" و"وسع للنور"، ولأن "المصائب تأتيك من حيث لا تدري"، وجد أمامه قامتين كأشباح تتخفى وراء نظارات سوداء ضخمة، "حضرتك الأستاذ الأبنودي؟ من فضلك عايزينك معانا شوية"، سار معهما بهدوء بعد أن أدرك وجهته، وأوحى لبليغ بإشارات من خلف زجاج الاستوديو ليخبره، "أنا معتقل.. ابقى ادفعلي إيجار الشقة"، وما كان من بليغ إلا أن سقط أرضا من الضحك.
في السيارة التي قادته نحو المعتقل، كان الأبنودي هادئًا رغم الضجيج الذي يملأ رأسه، مرت السيارة بجوار مبنى وزارة الداخلية ولم تقف، حدثه رأسه "أكيد عندهم أماكن كتير، هما هيغلبوا".
ما اكتشفه الأبنودي بعد وصوله للوجهة التي اقتاده إليها الرجلين، أن ما حدث له قد يكون أفضل اعتقال تعرض له، دخل الأبنودي مع القامتين لشقة في عمارة فخمة بالزمالك، للوهلة الأولى ظن أنها مكتبا للمخابرات، لكن أي مخابرات يخدمها نوبيا يرتدي طربوشا وقفطانا أبيض، وأي مخابرات تضع كرسي فوتيه ضخم في صالة فارهة، وتفرش سجاد لم ير مثله، والأغرب من ذلك احتضانه من قبل أحدهم، وهو يحدثه: "عبد الرحمن.. أنت جيت؟"، ليكتشف في النهاية أنه عبدالحليم حافظ.
"أمال مين ولاد الجزمة دول اللي سيبوا ركبي؟".. بعفوية الصعايدة قالها الأبنودي، الذي لم يقدر إلا على أن يجري خلفهم في الشقة، ولم يفصله عنهم سوى حليم، الذي رغب في مقابلة الأبنودي لتلحين أغنية له، وأحضره بهذه الطريقة، لينضم لهم بعدها كمال الطويل، ويستمر النقاش ساعات، بخاصة بعد رفض الأبنودي أن يخون صديقه صلاح جاهين في غيابه لعلاجه بالخارج، ولأن عبدالناصر كان ينتظر أغنية عن ثورة يوليو من حليم، أخرجهم الأبنودي من ذاك المأزق، بأن يعد لهم نصا من مجموعة قصائد جاهين، الذي عاد من رحلة علاجه بأغنية "أهلا بالمعارك".
علاقة مميزة وقوية جمعت الأبنودي وحليم، واستمرت سنوات طويلة، كان المستفيد الأول منها الجمهور، الذي كان يتمايل طربًا بسماع الجديد، سلم المستمعون حواسهم لفنانين وثقوا بهم دون سابق معرفة، لم تكن المعرفة سوى تلك الأغاني التي ربطتهم بأزيز أصواتهم، ورغم أن البداية لم تكن مبشرة بالمرة، بعد أن غنى حليم "أنا كل ما أقول التوبة"، والتي هاجمها الأبنودي في الراديو، بعد أن أزعجه توزيعها الغربي، وهي واحدة من أغاني الفلاحين العتيقة.
رغم انشغال الأبنودي بحليم وأغانيهما سويا في وقت ما، واعتقاد البعض أن حليم "خطفه" مع بليغ حمدي من محمد رشدي، أنكر الأبنودي ذلك في أحد حواراته الصحفية، معتبرا أن رشدي هو صديق عمره، وحليم مطرب لا يمكن تجاهله، فالأصوات أنواع والجماهير أمزجة، وكل منهما له مذاق ولون خاص، إلا لأن بليغ وحليم بينهما سمات مشتركة أبرزت نجاحهما.
منذ بدايتهما معا، لازم الأبنودي حليم كثيرا، وقضيا معا أوقاتا هامة في حياة كل منهما، فكان بيت حليم مفتوحا دائما للمثقفين والملحنين والشعراء والصحفيين، يجتمعون على مائدة، ويتناولون أشهى الأطعمة التي حرم منها حليم لمرضه، إلا أن الضحك والغناء كان أشهى مما يتناولون، كانت ثمار نجاحهم تأتيهم في حينه، حيث كانوا يرتجلون في جلساتهم ويكتبون أغانيهم.
يحكي الأبنودي عن أغنية "الهوى هوايا"، التي أغراه حليم باستكمالها بعد أن قال له مطلعها ضاحكا، وأعجبت حليم الذي اعتبرها أغنية، ووعده بمكافأة إذا استكملها، وقد كان، ألفها الأبنودي ولحنها بليغ في نفس الوقت، وأصبح المقطع الصغير أغنية في دقائق.
ثنائية حليم والأبنودي، علاقة فنية توجها عذب صوت الأول وثورية الثاني، كانت الأغاني الوطنية بطلة حكايتهما، حلفا بسماها وترابها، وقدموا "ابنك يقولك يا بطل"، وظلا رفيقان رغم الظروف التي كانت مصر تعانيها وقتها.
اجتماع الأصدقاء داخل منزل حليم، سمعوا جميعا خطاب التنحي، أحمد رجب والطويل وبليغ ومجدي العمروسي وحليم والأبنودي، دفعتهم الصدمة للهرولة إلى الشارع مع ملايين المصريين، كي يطالبوا عبدالناصر بالتراجع عن التنحي.
دب اليأس في قلوب الجميع بعد النكسة، لكن كيف لفنان أن ييأس وسلاحه صوته، ذهب حليم للأبنودي وقال له :"إحنا هنقعد كده من غير أغاني"، فرد عليه "لو عملنا أغنية مفيهاش إننا دخلنا حرب وانهزمنا، هنتضرب بالجزم"، فضحك حليك وسخر قائلا: "طيب ما تعمل، أنت مش عاملّي ثوري وبتدخل السجن، ولما ييجي أوان الثورية تطلع مش ثوري"، فأعطى الأبنودي لحليم قصيدة كتبها قبل النكسة.
"عدى النهار والمغربية جاية تتخفى ورا ضهر الشجر، وعشان نتوه في السكة تاهت من ليالينا القمر، وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها، جانا نهار مقدرش يدفع مهرها".. فرح حليم بقصيدة الخال، واتصل ببليغ حمدي فورًا، ليجتمع الثلاثي ويحضروا موال "النهار"، ومع بروفات الأغنية راودت حليم الأحلام بغنائها على أكتاف الناس في ميدان التحرير، دب الأمل في النفوس بهذه الأغنية، وأحبها ناصر شخصيا، حتى أنه كان يتصل برئيس إذاعة صوت العرب ليسأله عنها، وحين قرر حليم أن يغني أغاني عاطفية أثناء النكسة، انسحب الأبنودي واعتذر له، فاتجه حليم لمؤلفين آخرين، فلم يكتب الأبنودي لحليم سوى 3 أغاني عاطفية فقط، قال عنهم حليم: "الأبنودي كتبلي الأغنيات دي رشوة عشان أفضل أغنيله الأغاني الوطنية".
غاص الأبنودي لسنوات في بحر السيرة الهلالية، تنقل خلالها بين البلدان، ولم يلتق حليم به سوى بعد نصر أكتوبر، فعادا ثانية وقدما "صباح الخير يا سينا"، إلا أن مرض حليم دفعه للسفر والعلاج، ودعه الأبنودي الوداع الأخير دون أن يعلم أنه لن يلتقيه ثانية، فما كان من حزن الأبنودي سوى أن رثاه قائلًا: "فينك يا عبدالحليم، كتبت سطرين بس كنت حزين، أدّى ورقتي لمين، فينك نغنّي تاني موال النهار، يا صاحب الرحلة ف طريق الشوك، انت ممُتّش هما شِبْعوا موت".