عبد الحليم حافظ ..
الحياة فى قلب الدهشة
منير عامر
حتى الشمس بجلالة قدر توهجها يمكنها أن تقرأ خريطة مستقبل أى منا ، ومن يرغب فى معرفة كيفية حدوث ذلك فلابد أن أروى له لمحة مما جرى فى صباح يوم سبت من أيام يونيو المتوهجة بضوء نافذ ، وكان المكان هو شاطئ ميامى السكندرى صيف 1957 ؛
وشاطئ ميامى فى تلك الأيام كان يفوق بالأناقة والبساطة خيال زماننا المعاصر فلم يكن يزدحم بالتكلف وإتساع المسافة بين الظاهر والباطن كما هو حال أيامنا تلك. أسبح بجانب صديق لى بين موجات هادئة لا ترعب من لا يجيد السباحة مثلى ، وانتبه إلى صرخة صديقى « عبد الحليم حافظ وإحسان عبد القدوس يسبحان معنا» .
.....................................................................نظرت حيث يشير صديقى فهمست قائلا « جاء إحسان وعبدالحليم ليستريحا ، قلا داعى أن نعكر راحتهما» . يشير لى إحسان كى أقترب ، ليتذكر أنى التلميذ الذى زرته منذ شهور كى اجرى معه حديثا لمجلة مدرسة العباسية الثانوية السكندرية ؛ ويسألنى عن مدى إصرارى على دراسة الكيمياء والتخصص فى الطاقة الذرية كما كنت أحلم ، ثم يقول «هل فكرت فى أن تكتب لروز اليوسف وصباح الخير أخبار الإسكندرية ؟» فأقول أنى ما زلت عند محبتى للكتابة لكنى لا أحب الجرى وراء الأخبار ، فيؤكد ما سبق وسمعته من فتحى غانم أثناء زيارتى للمبنى المتهالك الذى ينبض بحيوية من يعملون فيه مبنى روز اليوسف القديم، وفى مكتب فتحى غانم سمعت منه شرحا لقوله بأن من يصغرك بيوم يعرف أكثر منك بعام ، وقال لى « كلام الأصغر منك به طاقة هائلة إن أضافها الكبار لخبراتهم يتطور المجتمع بسرعة .« وعرض فتحى غانم ان أكتب أخبار الإسكندرية لروز اليوسف فقلت « لو كتبت سأكتب قصصا قصيرة » . قال جادا « الخبر هو قصة قصيرة وقعت بالفعل «. يتدخل عبد الحليم حافظ ليقول « عندما يتكلم إحسان عبد القدوس وفتحى غانم عليك ان تدرس كلامهما فهما لا يتكلمان إلا بما يعرفان».
ولم أكن أتدلل على إحسان عبد القدوس ، ولا أرفض قولا لفتحى غانم ، فإحسان هو قائد مشاعرى التى تقدس فكرة الحب ، وفتحى غانم هو من أبحث عن مقالته فى روز اليوسف أو صباح الخير لأن هدوءه مثير للتفكير المتوزان .
ولم أكن أعلم أن ذلك النهار سيغير خرائط سفينة العمر ، فبدلا من تخصص الكيمياء إلى آفاق الحلم يتغيير العالم على هواى ، فأفاجأ بأن العالم يغيرنى على هواه .
.....................
ويأتى يوليو 1959 لاكون فى الإسكندرية وعلى «بلاج» ميامى من جديد ؛ بعد ان نفذت طلبا لفتحى غانم وهو كتابة قصص واخبار صيف الإسكندرية . ومرة اخرى اكون امام كابينة إحسان عبد القدوس ، هذا الذى يقدم تقديسا يفوق الخيال لمن يعملون تحت قيادته من الشباب . وعلى فنجان قهوة يأتى الحديث عن تغير دراستى من الكيمياء إلى آداب الإسكندرية والتى اتابع دراستى فيها بالسفر يومين للإسكندرية وخمسة أيام أنفذ ما يتم الإتفاق عليه مع فتحى غانم رئيس تحرير صباح الخير ؛ وصلاح عبد الصبور مدير تحرير روز اليوسف , أما لماذا لم احول اوراقى من الإسكندرية إلى القاهرة فبسبب قصة الحب التى اعيشها مع من وعدتها ان اكون لها للابد وتكون لى وهى تدرس بآداب الإسكندرية . يقول إحسان « ما دمت تدرس الفلسفة والإجتماع وعلم النفس فى القسم الوحيد الذى يجمع بين الثلاثة علوم ؛ فعليك ان تقوم بتبسيط الأفكار التى تدرسها لان الصحافة ستطلب منك ذلك؛ فالقارئ غير المتخصص لا يهتم بارسطو إلإ بما يجعل حياته مقبولة ، ولن يفكر مع اساتذتك فى قيمة إبن خلدون الذى وضع نفسه فى سلة ضخمة ليصعد إلى حاكم المغول الذى كان يحتل دمشق ؛ ولكن القارئ سيحتاج من إبن خلدون إلى افكاره عن إستطاعة الناس العاديين على العيش فى ظل الظروف الصعبة . ولابد انك عرفت من صلاح عبد الصبور الذى اعلم قدر رعايته لك كيف تقوم بتبسيط الأفكار الكبيرة ؛ فالكون كله يمكن ان تشرحه من خلال تأملك لحالة الدهشة التى تعبر عنها عندما تكتب عمن تحبها . أضحك لإحسان ويقف عبد الحليم على مدخل الكابينة ليقول : تعرفت على بطلة روايتك « لا أنام « وهى البنت الشريرة والجميلة ، ويلتفت لى عبد الحليم : لو أجريت معها حوارا صحفيا تعترف هى فيه بذلك فأنت تحقق خبطة صحفية « . يقول إحسان : هى لن توافق . أقول ضاحكا : أعلم أن عظامى أطرى من أنياب جمالها ، لكنى سأحاول .
وتحت شمسية على الرمال تتقدم صديقة عمرى نحو بطلة قصة لا أنام لتصافحها ، وتقدمنى لها فأصافح أنا البطلة التى تلعب معى لعبة الموافقة على إجراء الحديث على شرط أن تقرأه قبل أن أقدمه للمجلة . أفرح كثيرا وأعلم أن فى قولها خديعة ما . يمر عبد الحليم مع مدير أعماله مجدى العمروسى ، ويركن الإثنان على سور كابينة مغلقة ، فأقترب مع صديقة عمرى منهما لاجد عبد الحليم يدخل مع مجدى فى حوار عن لون سيارة مرسيدس يتم تصنيعها خصيصا لعبد الحليم بأمر واحد من سادة الخليج ، فيقول عبد الحليم « نفسى لون العربية يكون نفس لون عنيها» . وينطق إسم حبيبته التى أعرف مع صديقة عمرى أنها حصلت على الطلاق لتتزوج عبد الحليم ، وتقررصديقتى بشقاوة أن نعرف لون عيون الحبيبة ، فنتجه إلى كابينتها ، فأتساءل كيف سنعرف لون عيونها وهى تخفيها خلف نظارة شمسية كبيرة؟ فتقول صديقة عمرى « الحكاية سهلة « وتقترب من حبيبة عبد الحليم لتقول لها « «فيه حاجة فوق حواجبك» فتخلع حبيبة عبد الحليم نظارتها الضخمة وأدقق بكل ما أوتيت من قوة فى عيونها فلا أراهما « لكن صديقة عمرى تعود لتقول لى « عيونها أخضر زيتونى على أزرق .. سبحان الخلاق ».
فى الظهر تركت بلاج ميامى لأسير على الأقدام حتى منزل أستاذى د. سعد جلال عالم النفس الكبير ملبيا دعوة على الغداء ، أسأله « هل توجد امرأة شريرة الطباع دون سبب؟» يقول لى « هناك رجال أيضا أشرار الطبائع دون سبب .. إنها الشخصية السيكوباتية سواء أكانت لرجل أم إمرأة «. يسألنى عن سبب سؤالى فأجيب بأنى سأجرى حديث مع بطلة رواية «لا أنام » التى كتبها إحسان عبد القدوس . قال العالم النفسى «حاسب من الغواية التى يتبعها إنتقام». أضحك قائلا: أنا لست فى أناقة أحمد رمزى ولا طلة عمر الشريف، ولن تجد عندى سوى حزمة من الأسئلة ، فيقول ضاحكا «برضه حاسب من الانتقام» . ويسألنى عن الصباح كيف قضيته ؟ فأحكى له عن سؤال عبد الحليم عن عيون حبيبته وأنه يتمنى أن تكون السيارة التى يتم تصنيعها خصيصا له بألمانيا فى لون عيون الحبيبة « . يقول العالم النفسى « أتوقع عدم وصول قصة حب عبد الحليم إلى النجاح ، لأسباب أهمها إحتلاف المعايير عند إبنة الأسرة المقتدرة عن حياة الفنان الذى بدأ من تحت الصفر .. أنت إبن الإسكندرية وتعلم كيف ضربه الجمهور بالطماطم فى حفلات عام 1952 عندما رفض أداء أغنيات محمد عبد الوهاب . كما أن حياة الفنانين تلمع من الظاهر ومليئة بالأشواك فى داخلها . ولو أتيحت لك فرصة أن تطبق عليه إختبار مينسوتا لدراسة الشخصية ، سيكون عندك خريطة لميلاد فنان فى ظروف صعبة « . أخذت من العالم النفسى الكبير نسخة من إختبار مينسوتا لدراسة الشخصية المتعدد الأوجة لا لاطبقه على عبد الحليم ولكن لأتعرف على مجموعة أسئلة تفيدنى فى إستكشاف اى شخصية التقى بها .وفى مساء نفس اليوم كنت على موعد مع صديقة عمرى لندخل سينما فلوريدا الصيفية بميامى لنجد حبيبة عبد الحليم قد دخلت لتحضر عرض الأفلام الثلاثة وبعد دخولها بربع ساعة كان عبد الحليم قد دخل فى ظلام السينما ليجلس بجانبها .
.....................
دارت عقارب الشهور والسنوات لأجد نفسى جالسا على العشاء مع عبد الحليم حافظ على مائدة السفير جمال منصور سفير مصر بباريس ؛ وكانت عقارب الزمن تشير إلى الخامس والعشرين من ديسمبر 1963 . طبعا كانت حبيبة عبد الحليم التى دخل معها سينما فلوريدا قد إنتقلت إلى العالم الأخر بفعل فيروس تسلل إلى غشاء المخ . ولم أذكر عبد الحليم بما جرى فى يوليو 1959 ؛ لأن حياتى إختلفت عن الإهتمام بتفاصيل حياته . وكنت أملك غضبا صغيرا بسبب تخليه عن فكرة الزواج من سعاد حسنى ، وكشف إحسان عبد القدوس تفاصيل التخلى من خلال ثلاثة حوارات قامت بهم زميلتنا مهجة عثمان مع سعاد حسنى ، وعلمنا أن من نصحه بالهرب من سعاد هو مصطفى امين الذى قال أن زواج الفنان المطرب يقلل من عدد معجباته . لكن حنان عبد الحليم البالغ الرقة معى وتعاطفه مع قدر من تفاصيل حياتى الذى عرفة من السفير جمال منصور جعله يفتح قلبى على مصراعيه ليجلس فيه ، وحين ألتقينا بعد ذلك ومعى صديقة عمرى على عشاء بمنزل الدبلوماسى عماد البط فى ليلة غناء أم كلثوم « إنت عمرى «، قال عبد الحليم أنه كان الجسر الذى سار عليه كل من ام كلثوم وعبد الوهاب ليلحن لها ؛ وروى ما دار على مائدة العشاء مع جمال عبد الناصر ليلة 23 يوليو عام 1963 حيث طلب أن يؤيده الرئيس فى ضرورة غناء أم كلثوم لحنا لعبد الوهاب ، فقال عبد الناصر « لو كان الإبداع الفنى يمكن أن يتحقق بقرار جمهورى لأصدرته من زمن ، فرد الصامت دوما عند الحضور على مائدة عبد الناصر ليلة 23 يوليو، رد محمد عبد الوهاب «اعتبر الأمر صدر يا سيادة الرئيس».
ولا أنسى لعبد الحليم ليلتها سيرنا على حرف حديقة لوكسمبرج الواقعة أمام منزل عماد البط وهو يغنى « الحلوة .. الحلوة .. «. وكانت «يدى تمسك بيد الحلوة ، وقال كريما : أريدك أن تكتب تاريخ حياتى . قلت : أنت تجاملنى وتنسى أن جليل البندارى صديقك وقد أصدر عنك كتابا . قال : أعرف أنك مهتم بعلم النفس والسياسية فلماذا لا تكتب تاريخ حياة فنان . أنت كتبت عن سيف وانلى مسلسلا فى روز اليوسف فهل سيف وانلى أشهر من عبد الحليم حافظ ؟ ضحكت قائلا: لا أظن أن أحدا يمتلك شجاعة سيف وانلى فى الاعتراف بالضعف والقوة . قال : فلنجرب . وطبعا عاد اختبار مينسوتا لدراسة الشخصية المتعدد الأوجة للحضور إلى خيالى وأنا أصافحه أمام فندق جراند أونيل ذى الثلاث نجوم الموجود فى الشارع الجانبى للسفارة المصرية بباريس ، ولتبدأ من تلك الليلة صداقة إستمرت إلى أن صعدت روحه إلى خالقها .
.....................
ووجه لى الدعوة على العشاء فى كازينو «الليدو» وهو أشهر أماكن الطبقة الراقية من أنحاء العالم . قال لى : ماذا فعلت فى حديثك مع بطلة رواية لاأنام ؟ اندهشت لأن ذاكرته حملت ما لم أقله له فى اللقاء على «بلاج» ميامى ، ويبدو أنه علم بحكاية الحديث من الأستاذ إحسان عبد القدوس . فقلت : أعطيتها الحديث مكتوبا فمزقته ، فقلت لها أنى كتبت الحديث بالكربون أى أن عندى نسخة أخرى . ونصحتها بأن تعرض نفسها على الدكتور بهمان أو د. يوسف جنينة وكل منهما يمكنه علاج الشخصية السيكوباتية . هنا أحست أنى رددت على حكاية تمزيقها للحديث الذى أجرته معها . وحاولت التغابى لأساله عن حكايته مع سعاد حسنى . فقال : عندما نعود إلى القاهرة يمكن أن نلتقى ثلاثتنا سعاد وأنت وأنا .
.....................
فى القاهرة دق التليفون بصالة تحرير صباح الخير لأرفع السماعة لأجده يقول « إيه يا أستاذ منير ؟ لماذا لا تتصل بى؟ رقم تليفونى سهل 808095 . وبدأت جولات من الحوارات قال عنها طبيبه الخاص هشام عيسى « لم أجد عبد الحليم صادقا مع احد قدر صدقه معك . فلم يرفض إجابة على أى سؤال وجهته إليه».
.....................
وأمام منزله بالعمارة زهراء الجزيرة المملوكة لأحد أجهزة القوات المسلحة والذى خصصه له المشير عبد الحكيم عامر، أمام هذا المنزل وفى وقت ما بعد إفطار رمضان شاء عبد الحليم أن ينزل إلى الشارع ،و كان هذا هو الوقت الذى لن يتجمع حوله جمهور وأطلت سعاد حسنى من الشارع الجانبى كزهرة من نضارة مؤثرة وثرية ، وكان العالم النفسى أحمد عكاشة يمارس هواية السير حول منزله بنفس الحى . ولا أدرى لماذا جاء الحديث عن الموت ، فقال عبد الحليم : عن نفسى أنا أخاف الموت كل ليل لذلك أسهر إلى أن أرى الفجر . ضحكت سعاد قائلة : ولذلك تنزل ستائر على شباك حجرة نومك لتصنع ليلا خاصا بك «. قال د. أحمد : من الطبيعى أننا جميعا نخاف الموت . نزل عبد الحليم من الرصيف الذى كنا نقف عليه ليشوط حجرا بآخر ما فى قدمه من قوة ، وهو يلعن الموت . فقلت لهم أنا قرأت حديثا قدسيا يقول فيه الحق سبحانه ما معناه أنه سيأتى بالموت يوم القيامة ، وبعد إنتهاء حساب البشر جميعا ، ولسوف يأتى بالموت على هيئة كبش ليتم ذبحه أمام البشر جميعا. يقول عبد الحليم : فكرة هايلة حكاية ذبح الموت .
وعندما مات عبد الحليم كنت أقول فى حضور أستاذى فتحى غانم : عبد الحليم قهر الموت لأنه يولد كل يوم مع كل قصة حب تولد .
يقول فتحى غانم « أرسل لى من على سرير نهايته أنه سيتصرف بعقل عندما يعود إلى القاهرة وسينظم حياته .
قلت : أكيد الأستاذ فتحى الذى رصد عبد الحليم من البداية قادر على ان يكتب رأيه كروائى وشاهد على بزوغ نجم عبد الحليم من البداية وحتى الرحيل .
قال فتحى غانم : إختفاء جسد عبد الحليم كان مجرد إكتمال لرحلة فنان سيولد مع كل قصة حب .
.....................
كثيرة هى التفاصيل الصغيرة الباقية فى الذاكرة والقلب لحياة فنان عظيم شاء القدر أن يكون موجودا فى حياتى وأنا أختار مستقبلى بلقاء الصدفة مع إحسان عبد القدوس على بلاج ميامى لتتجمع تفاصيل حياته بحلوها ومرارتها ، وليرحل من عالمنا على ملاءة سرير مطرزة بالدانيتلا التى غزلتها من قررت أن تتزوجه فور عودته سالما من رحلة العلاج الأخيرة وهى الجميلة التى تنتمى إلى أسرة كبيرة بالأردن ، ولكن عبد الحليم خان الحب الأخير بالموت كعادته دائما فى خيانة كل قصة حب أراد الإكتمال بها ، ولكنه إحتفظ لنفسه بحق الميلاد مع كل قصة حب تولد ؛ فصوته يأخذنا من الواقع لنحلق كطيور عشق فى قلب الدهشة التى يصعب التعبير عنها ألا وهى دهشة السباحة فى أمواج الحب ذات العطر والشوك أيضا .
كل سنة وأنت مولود بحيوية الشجن الصافى ياعبد الحليم .